[ذبح الرحمة وموت الدماغ]
وتفرعت على هذه المسألة مسألة قتل الحيوان للرحمة، وهي: إذا كان الحيوان قد أنفذت مقاتله، وتفرعت عليها المسألة المعاصرة في موت الدماغ، وهل يجوز سحب الأجهزة على المريض إكلينيكياً وسريرياً أو لا؟ فهل هذه الحياة في حكم الحياة المستقرة، أو هل الحياة المنعدمة في حكم المستقرة؟ اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة من أنفذت مقاتله، هل حياته حياة مستقرة أو في حكم العدم؟ فبعض العلماء يقول: حياته مستقرة، وبعضهم يقول: حياته في حكم العدم، إذا قلنا: إن من أنفذت مقاتله كمن ضرب في مكان لا يشك أنه لو ترك سيموت، مثل البهيمة تصدم بالسيارة، وتقطع على أنها لو تركت دقائق ستموت، أو تسقط من مكان عالي وتدركها وهي ترفس فلو تركت ستموت، أو يأتي السبع فيفترسها فيبقى فيها شيء من الحركة، فهل هذه الحركة في حكم الحياة المستقرة وحينئذٍ إذا ذكيت جاز أكلها؟ أو هي في حكم العدم وحينئذٍ إذا ذكيت لا يحل أكلها؛ لأنها أنفذت مقاتلها فهي متردية أو مقتولة حتف نفسها ميتة؟ فبعض العلماء يقول: إنها في حكم العدم، وإذا قيل: إنها في حكم العدم فإن الذكاة لا تؤثر، وظاهر الحديث أن الشاة التي بقر بطنها الذئب فكسرت المرأة الحجر وذكتها، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أكلها؛ يدل على أن الحركة حياة، وحينئذٍ فما دام قلب المريض يتحرك فهو حي، وما دامت الحياة فيه فلا يجوز سحب الجهاز، ويكون حينئذٍ محظوراً.
حتى ولو كانت حركة لا إرادية التي هي الحركة الأخيرة، وذلك استصحاباً للأصل؛ ولأن تشخيص الدماغ فيه اضطراب بين الأطباء، وحتى على تحديد هذا التشخيص لا يتيسر إلا في مستشفيات متقدمة، وهذا يخاطر بأرواح الناس.
وهناك مبررات كثيرة ذكرناها في أحكام الجراحة، لكن الذي يهمنا هنا: أن الحيوان يقتل رحمة به على هذا الوجه؛ لأنه لو بقي دون إطعامٍ على الوجه المعروف تعذب، ولا يجوز تعذيب الحيوان، أما الآدمي فلا يجوز قتله، فلو أن إنساناً أصيب بالسرطان -أعاذنا الله وإياكم- وقطع الأطباء على أنه لا يعيش؛ فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتله، لأن الله حرم هذه النفس، وللمعاني المعتبرة شرعاً في ورود هذا البلاء عليه؛ لأن البلاء مقصود شرعاً، فالله أرحم به من خلقه، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:٢٩].
سبحان الله! كيف جمال هذا القرآن وعظمته؛ لأنه تنزيل من حكيم خبير {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:١]، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:٢٩].
أحد الأوجه في تفسير الآية: أن أنفسكم إخوانكم؛ وذلك مثل قوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] يعني على إخوانكم، فقيل معنى: (لا تقتلوا أنفسكم) أي: إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو ... ) والجسد الواحد نفس واحدة، فلما قال: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) عقب ذلك بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) فإذا تبجح أحد وقال: نريد أن نرحمه، فقد كذبه الله عز وجل، وقال: أنا أرحم بعبدي الذي ابتليته، وأنا أرحم بعبدي الذي أسقمت بدنه، وأنزلت به البلاء.
ولذلك ليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه، هذا شيء بيد الله، يقف الأطباء عند إمكانياتهم وحدودهم التي يقفون عندها والباقي لله عز وجل مالك كل شيء وخالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
والطب له هدفان: الوقاية والعلاج، وإذا خرج عن هذين الهدفين فليس بطبٍ شرعي، ولذلك إذا قال: نقتله، فلا هو علاج ولا وقاية، فالقتل ليس بوقاية، فهذا ليس بطبيب! وليس هذا تخصصه، ولا من شأنه، وليس له أن يتدخل بين العبد وربه، فهو الذي ابتلاه وهو الذي يدبر أمره.
وكذلك إذا وجدتهم يدخلون في هندسة وراثية أو غيرها فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقصود الطب إلى العبث، فهذا عبث وتصرف في خلقة الله عز وجل التي خلق عليها العباد.
والله شرع الطب دواءً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن شريك في السنن: (أنه جاءه الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء) فجعل الطب علاجاً للأسقام، وفي حكم العلاج الوقاية، وما عدا ذلك فليس بطب، فحينئذٍ قتل الرحمة ليس بعلاج ولا دواء.
وإن قلنا في البهيمة: إنها تقتل؛ فإنما ذلك لأنه يستطاب لحمها، ويجوز أكله، من المشاكل الآن أنه من ذهب يبحث في مسائل فقهية فيما يسمى بالاجتهاد المقيد، وهو أن يأتي إلى مسألة ويجمع ما فيها ثم ينظر فيها ويخرج بخلاصة الواقع أن هؤلاء الباحثين الذين لا يعرفون مصطلحات العلماء ولا ضوابطهم يجنون كثيراً ببحوثهم، ولذلك ينبغي على طالب العلم ألا يتقبل البحوث الفقهية إلا ممن كان عنده دراية وخبرة بمتون العلماء وأساليبهم، ومصطلحات وضوابط أهل العلم في الحكم؛ لأنه في هذه الحالة سيتعرض للزلل بلا شك.
فبعض الذين يبيحون قتل الرحمة يقولون: إن العلماء أجازوا قتل البهيمة، وذلك لأنها إذا بقيت تعذبت، فالبهيمة إذا جاز قتلها لأنها تتعذب فالآدمي أعظم حرمة! فانظر كيف يقيسون؟! فإذا قرر الأطباء أنه ميت ومتعذب ومتضرر بهذا المرض؛ فليسقوه داءً وليحقنوه حقنات ويقضوا عليه، وهذا القضاء أرحم به، ويقولون: عند الطبيب رسالة وهي رحمة المريض، فحينئذٍ ينبغي أن يرحمه بهذا العقار الذي يقضي عليه ويريحه، ثم يريح أهله من عناء التكاليف المادية والعناء النفسي لمتابعته، هذه مبرراتهم.
فنقول لهم: إن العلماء رحمهم الله لما أجازوا قتل البهيمة قيدوها بما إذا أكلت، ومعناه: أنها إذا لم تؤكل صار ضرباً من الفساد، والآدمي لا يؤكل، فإذاً الذبح كان متعلقاً لإفادة الغير، وأما الآدمي فلا يذبح ولا يؤكل، فإذا ثبت هذا سنقول: إن هذا الفهم جاء عوره من عدم النظر لضوابط العلماء، ولذلك قال المصنف: (إن أكلت) يعني: إن كانت تؤكل، وهذا قول يدل على أنه لا يجوز ذبحها إذا كانت مما لا يؤكل.
فلو كانت عنده بهيمة لا تؤكل كالحمار -أكرمكم الله- ففي هذه الحالة يقال له: أنفق عليه أو بعه أو أجره، لكن لا يؤمر بذبح الحمار لأنه لا يؤكل.