[سنن الخطبة]
قال رحمه الله تعالى: [ومن سننهما: أن يخطب على منبر أو موضع عالٍ، ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين، ويخطب قائماً، ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا، ويقصد تلقاء وجهه، ويقصر الخطبة، ويدعو للمسلمين].
قوله: [ومن سننهما] أي: من سنن خطبة الجمعة الأولى والثانية [أن يخطب على موضع عالٍ].
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: (أنا أعلمكم بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة منا -أي: من الأنصار-: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس.
قال: فصنعها)، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام عليه.
فهذا الحديث فيه قصة المنبر، والمنبر: من النبر، وأصله: ارتفاع الصوت.
قالوا: إن المنبر إنما شرع من أجل أن يبلغ صوته.
والسبب في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، وكان المسلمون في المدينة قليلين حينما كانت محصورة على أهلها والمهاجرين الذين هاجروا معه، فلما فتحت مكة وقدم الناس والوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الناس في المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنبر لأجل أن يبلغ صوته في خطبته صلوات الله وسلامه عليه، فصنع هذا المنبر من ثلاث درجات، ثم خطب عليه صلى الله عليه وسلم، فصارت سنة أن يخطب الإمام على منبر، فإن تيسير وجود المنبر فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فإنه يخطب على شيء عالٍ، كأن تكون هناك صخرة يقف عليها، أو يكون هناك درج عالٍ من الخشب، أو وعاء من الحديد عالٍ، فالمهم نشز على الأرض عال يقف عليه، ولو كانوا في البر فوقف على هضبة أو ربوة فخطب عليها فلا حرج، والسبب في هذا أنه إذا علا فإن ذلك أدعى لسماعهم صوته وانتفاعهم بموعظته وخطبته.
قوله: [ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم].
هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فمذهبهم أن السنة إذا رقى الخطيب المنبر والتفت بوجهه إلى الناس أن يسلم عليهم.
وقال بعض السلف: يسلم عند دخوله للمسجد، فإن سلم عند دخوله للمسجد لم يحتج أن يعيد السلام على المنبر.
ولكن المحفوظ من فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان السلام عليهم على المنبر، فالروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سلّم كان إذا رقى المنبر وأقبل على الناس سلّم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد روى أبو النجاد أن أبا بكر وعمر كانا يفعلون ذلك.
وفي رواية منفردة عن عثمان، أنه فعل ذلك، كل ذلك يؤكد على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده السلام بعد رقي المنبر إذا أقبل على الناس.
قوله: [ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين].
أي: إذا سلم جلس حتى يفرغ المؤذن من أذانه، ويردد معه، وبعد الفراغ من الأذان يقول الدعاء المشروع، ثم يبتدئ بخطبته، فهذا هو المسنون والمشروع لظاهر النصوص، كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، هذا يدل على أن السنة أن يسكت أثناء الأذان.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سلّم على الناس وأذّن المؤذن أخذ الصحابة يكلّم بعضهم بعضاً، فإذا ابتدأ عمر خطبته قطعوا الكلام وامتنعوا عن الحديث.
قوله: [ويجلس بين الخطبتين].
هذا كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره أنه: (كان عليه الصلاة والسلام يفصل بين الخطبة الأولى والثانية بالجلوس)، وهذا الجلوس يسير، وضبطه بعض العلماء بقدر ما تحصل به الطمأنينة.
وقال بعضهم: يقارب قراءة سورة الإخلاص، أي: بقدرها من الزمان اليسير.
والصحيح أنه لا يتقيد بهذا، وإنما يكون بأقل ما تحصل به الطمأنينة، فلو جلس جلسة خفيفة تحصل بها الطمأنينة فإنه حينئذٍ يعتد بجلوسه، ولا يصل الخطبتين ببعضهما.
وهنا مسألة، وهي أنه إذا كان يجوز للإنسان أن يخطب جالساً لوجود عذر كمرض ونحوه، فخطب جالساً الخطبة الأولى فإن كيفية فصله بين الخطبة الثانية والأولى- كما قالوا- أن يسكت هنيهة بقدر جلوسه بين الخطبتين، فإذا سكت بين الخطبة الأولى والثانية كان سكوته بمثابة الجلوس.
قوله: [ويخطب قائماً].
ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه خطب قائماً)، ولذلك قبّح الصحابة رضوان الله عليهم وشنّعوا على من خطب جالساً، كما أثر عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولما دخل بعض الصحابة على بعض أهل البدع وهو يخطب جالساً قال: انظروا إلى هذا الخبيث.
وذلك لأنه تمرد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب غيرتهم على سنته صلى الله عليه وسلم، خاصةً وأن الخطبة ينبغي أن تكون على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في صفته وحاله، وهذا يؤكد ما ذكرناه، بدليل أن الصحابة كانوا يشنّعون على كل من خالفه، ولما رؤي مروان بن الحكم وهو يرفع يديه قال الصحابي: (تباً لها من يدين قصيرتين، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على الإشارة)، أي: ما كان يرفع يديه على المنبر في الدعاء إلا في الاستسقاء.
فقوله: [ويخطب قائماً] لأنه أبلغ في الهيبة، وأبلغ في التأثير، وأكثر نفعاً للناس، وذلك برؤيتهم الخطيب، خاصة إذا رآه المستمع وهو ينفعل في كلامه ويتأثر بما يقول، فإن ذلك أدعى لحصول الموعظة في القلوب وتأثرها بها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، وإذا خطب رفع صوته واشتد غضبه، وهذه هي السنة، فلابد أن يكون في الخطيب في هيئته وصورته ومنظره ما يدل على هيبته لذلك المقام، وهو مقام الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، وهو أشرف المقامات وأحبها إلى سبحانه وتعالى، وهو مقام الدعوة إلى الله عز وجل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب -كما في حديث جابر - تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه -أي: عروق رقبته عليه الصلاة والسلام-، ويشتد غضبه، ويعلو صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، قال العلماء: لأنه إذا خطب بهذه الصفة شعر الناس بهيبة الكلام الذي يقوله، أما لو خطب ببرود وخمول وبصوت ضعيف فإن الناس لا تتأثر ولا تتفاعل مع كلامه، ولا تحسب بأن هذا الكلام يخرج من إنسان يتأثر به، فإذا كان الخطيب يتأثر بالكلام الذي يقول، وكانت كلماته خارجة بوقع بليغ يدل على تأثره بالكلمات التي يلقيها على الناس، فإن الناس يستجيبون لذلك، ثم إن صورته من شدة الغضب وتغير وجهه تدعو الناس إلى دفع السآمة والملل والنوم، والإقبال عليه، حتى إنهم يشفقون عليه في حاله، ويحسون حينئذٍ أنه يتكلم عن أمر عظيم، وهذا أدعى إلى هيبة الشرع، بخلاف ما إذا تكلم الإنسان ببرود وبطمأنينة وهدوء، فإن الناس ربما ناموا وربما تكاسلوا وانشغلوا، ولكنه إذا تفاعل مع خطبته كان الأثر أبلغ، وهذا الشيء مجرب، ولذلك حمدت طريقة الإلقاء على طريقة الخطبة من الورقة، فإنه إذا خطب بالإلقاء تفاعلت الناس برؤيته وأحسوا أنه يتفاعل مع الكلام الذي يقول، بخلاف ما إذا كان يخطب من ورقة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يستحب أن يكون الإلقاء مباشرة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك المقصود منه أن يكون الأثر أبلغ في النفوس، حتى يعظم الناس شأن الخطبة وشأن المنبر، ويحس الناس بهيبة المنبر، أما لو علا المنبر ضعيف النفس ضعيف الإلقاء والتحضير فإنه لا يبلغ أثره في القلوب بموعظته، وترى الناس تستهين بالمنبر، وربما يصل إليه من ليس بأهل فلا يحصل المقصود من تأثير الناس في المواعظ والخطب، ويكون هذا مخالفاً لمقصود الشرع ومراده.
قوله: [ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا] فيه حديث اختلف العلماء في سنده، وحسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في اعتماده عليه الصلاة والسلام على العصا.
ولذلك لا ينكر على أحد اعتمد على عصا، ودرج على ذلك العلماء رحمة الله عليهم، ولكن لو خطب بدون عصا فإنهم يقولون: لا حرج عليه ولا ينكر عليه.
وبعض العلماء يرى أنه ما دام الحديث مختلفاً فيه فإنه يخطب بدون عصا.
قوله: [ويقصد تلقاء وجهه].
أي: إذا خطب الخطيب لا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأنه إذا التفت يميناً ظلم أهل اليسار؛ لأن صوته يعزب عنهم، وإذا التفت يساراً ظلم أهل اليمين؛ لأن صوته يعزب عنهم، ولذلك قالوا: يقصد تلقاء وجهه.
أي: يجعل وجهه إلى الأمام، فلا يلتفت يميناً ولا شمالاً.
وفي هذه المسألة دليل خفي أشار إليه بعض المحققين، كالإمام الحافظ ابن الملقن رحمه الله، فقد أشار إليه في حديث أنس في الصحيحين، وهذا يدل على عمق فهمه رحمة الله عليه، وذلك أنه ذكر أن الأعرابي -كما في الرواية الصحيحة- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة التي استسقى فيها، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي للناس، دخل من باب عمر)، وكان يسمى: باب القضاء، وهي دار كانت لـ عمر بيعت وصارت دار قضاء، وهذا الباب كان في الجهة الغربية إلى الشمالية من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منه هذا الأعرابي.
قال أنس: (فمضى حتى صار تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبله).
ووجه الدلالة في انتزاع هذا الحكم -كما قالوا- أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في خطبته لما احتاج الأعرابي أن يتكلف المسير من الجهة الغريبة حتى ينتصف المسجد ويأتي تلقاء وجهه، فقالوا: دل هذا على أنه كان إذا خطب قصد تلقاء وجهه عليه الصلاة والسلام.
واستثنى بعض العلماء الدروس وأثناء المجالس العامة، فقالوا: إنه إذا خشي على الناس أن ينام بعضهم، أو يحصل له ما يدعوه إلى السآمة والملل فلا حرج أن يلتفت، خاصة عند تقرير المسائل وضبطها، أما في الخطب فالسنة أن يقصد تلقاء وجهه، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وقالوا: هذا كله أدعى لهيبة الخطيب ولإقبا