للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قتل الحية والعقرب والقمل في الصلاة]

قال رحمه الله تعالى: [وقتل حية وعقرب وقمل].

أي: وللمصلي أن يقتل الحية العقرب، وأن يقتل القمل.

أما قتله للحية والعقرب فقد جاء فيه حديث السنن من أمره عليه الصلاة والسلام بقتل الأسودين في الصلاة، أي: العقرب والحية.

وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ووجه ذلك أن المصلي لو اشتغل بصلاته وجاءته العقرب فلدغته فإن ذلك مظنة أن يموت، وكذلك إذا لُدِغ من الحية، ولذلك يُعتبر هذا -أعني جواز القتل أثناء الصلاة- من باب ارتكاب أخف الضررين، ويَعتبره العلماء من باب تعارض المفسدتين، فعندنا مفسدة الفعل وهو القتل الذي يُخرِج المصلي عن كونه مصلياً، ومفسدة فوات النفس وحصول الضرر بلدغة الحية والعقرب.

فلذلك قالوا: كون الشريعة تأذن بقتل الحية وبقتل العقرب يدل على تقديم المفسدة العليا على المفسدة الدنيا، وهذا أصل في الشريعة، ومنه القاعدةٌ المشهورة: (إذا تعارضت مفسدتان أكبرهما)، وبعضهم يقول: (رُوعِي ارتكاب أخفهما بدفع أعظمهما) أي: لدفع الأكبر، ومن ذلك كَسْر السفينة، كما في قصة موسى مع الخضر، حيث علل الخضر عليه السلام كسرها بقوله فيما حكى الله تعالى عنه:: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:٧٩]، فكسرها أفضل من أخذها بالغصب كلها، ولذلك قالوا: كسر السفينة مفسدة أهون من فوات السفينة بكاملها.

وعليه فرّع العلماء جواز أن يذهب ثلث الوقف لاستصلاح ثلثيه، ونحو ذلك من المسائل، فكون الشريعة تأذن بقتل الحية والعقرب في الصلاة من باب ارتكاب أخف الضررين؛ فإن الاشتغال بالقتل أولى من كون الإنسان يُلدغ، قالوا: لأنه إذا لُدِغ شوّشت عليه صلاته، ولم يستطع أن يصلي وربما مات، فلذلك قالوا: تقدم المفسدة العليا أعني فوات النفس.

ومما تفرع على هذا الأصل من المسائل: أنك لو خفت من شيءٍ يُفضِي بك إلى فوات نفسك فإنه يجوز لك في الصلاة أن تدفعه، فلو جاء الإنسان أسد وهو في صلاته شُرِع له أن يفر، أو يتخذ السلاح، أو يضربه بالسلاح درْءاً لمفسدة فوات النفس، وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فلو رأيت أعمى يكاد يقع في حفرة جاز لك أن تقطع الصلاة لإنقاذه إن توقَّف إنقاذه على قطع الصلاة، وجاز لك أن تتكلم، وأن تصوِّت بصوت تمنعه من الوقوع إن كان ذلك يمكن، فقالوا: هذا من باب حفظ الأنفُس، ولا شك أنه مطلوبٌ شرعاً، بل هو أحد الضروريات الخمس التي راعتها الشرائع كلها.

ومن ذلك أيضاً: المرأة إذا كان معها صبيها الصغير فرأته قد اقترب من نار، أو خشيت عليه السقوط على وجهٍ يوجب تلف نفسه، أو ذهاب عضو من أعضائه، أو حصول الضرر عليه، قالوا يجوز لها أن تتحرك وتنقذه، فإن توقفت نجاته على الخروج من الصلاة شُرِع لها الخروج من الصلاة.

فكل هذه الأمثلة مخرَّجة على ما ذكرناه.

أما الأدلة التي دلت على مشروعيةِ تحصيل حفظ الأنفس بفوات الصلاة، فمنها حديث السنن الذي ذكرناه في قتل الحية والعقرب.

ومنها: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءه الشيطان في الصلاة فتكعكع، فتكعكع الصف الأول، ثم لما سلّم عليه الصلاة والسلام سأله أصحابه، فقالوا: رأيناك تكعكعت فتكعكعنا -أي: رأيناك تأخرت فتأخرنا- فذكر أن الشيطان قد جاءه بشهابٍ فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعوذ بالله منك)، وفي رواية: (أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله).

إلى أخر الحديث.

وقالوا: إن كونه يأتيه بشهابٍ من نار ثم يدفعه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على دفع المفاسد التي هي دون القتل؛ فإن شهاب النار مُحرِق ولكنه لا يصل إلى درجة فوات النفس فجعلوا حديث الحية والعقرب فيما فيه فوات النفس، وجعلوا حديث النار فيما فيه الضرر البالغ على الإنسان.

ومن الأدلة أيضاً: مشروعية الصلاة حال القتال والمسايفة فإن الله أَذِن للعبد أن يصلي ويقاتل، وذلك حفظاً لنفسه، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتحرك تحصيلاً لهذا الأصل الذي ذكرناه.

وما الحية والعقرب فبعض العلماء يفرق بين الحية والعقرب، قالوا: إن شأن الحية أخف من شأن العقرب، والسبب في ذلك أن الحيّات لا يعترضن غالباً إلا من اعترضهن، وربما مرّت الحية على ساق الإنسان ولا تؤذيه، وربما مرت أمامه ولا تتعرض له، وإنما تتعرض لمن يتعرض لها.

فقالوا في هذه الحالة: هي أخف من العقرب، بخلاف العقرب فإن ضررها أبلغ وقصدها للأذية أبلغ، ففي حالة كونه يتضرر من الحية قالوا: يتريث ولا يعجل إذا غلب على ظنه أنه قد يأمن الشر، وإنما يجوز لك أن تقطع الصلاة، أو تقاتلها أثناء الصلاة إذا كان الفعل يسيراً، وغلب على ظنك كونها ضارةً لك وقال بعض العلماء: لا يُفَصَّل بهذا التفصيل؛ لأن الحية مأمورٌ بقتلها.

قال رحمه الله تعالى: [فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة وبلا تفريق بطلت ولو سهواً] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه يُشرع للمصلي أن يفعل هذه الأفعال من قتل الحية وقتل العقرب بين لنا أنه إن طال فعله -أي للقتل ورد المار- بحيث يؤثر في صلاته استأنف الصلاة، وإلا بنى.

وهذه المسألة للعلماء فيها وجهان: فجمهور العلماء على الجواز، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع، ووافقهم أهل الحديث وأهل الظاهر.

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم مشروعية هذه الأفعال، فقال: إن الحركة في الصلاة نُسِخت، وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة).

والصحيح أنه باق، وأنه لا حرج على الإنسان أن يفعل هذه الأفعال عند وجود أسبابها وموجباتها.

فإذا قلنا على مذهب الجمهور: إنه يُشرع لك أن تقتل الحية وأنت في الصلاة، سواء أكانت فريضةً أم نافلة، وأنه يشرع للإنسان أن يتسبب في نجاة غيره إذا كان في الصلاة، فحينئذٍ لا يخلو فعلك من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فعلاً يسيراً.

والحالة الثانية: أن يكون فعلاً كثيراً.

فإن كان فعلاً يسيراً فإنه مغتفر عند الجمهور، ومثال ذلك أن يكون بجوار الإنسان عصا فأخذها ورفعها مباشرة وضرب بها الحية ثم رماها وألقاها، فهذا فعل يسير، أو كان بجواره رمح فأخذه وطعن به الحية فقتلها، فهذا أيضاً يسير مغتفر.

وإن كان فعلاً كثيراً، فهذا يوجب استئناف الصلاة، بمعنى أنه قد خرج عن كونه مصلياً وتُستثنى حالة المسايفة وهي القتال، فإن الكثير فيها والقليل على حدٍ سواء، فلو أن العدو نزل بالمسلمين في وقت الصلاة، فقاتلوه بحيث لم يبق إلا قدر أدائها، قالوا: يُقاتِل على حالته، ولو كان في حال ضربه بالسيف، فإنه يقاتِل ويصلي ولو ترك ركوعه وسجوده لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:٢٣٩].

وإذا ثبت أنه يُشرع لك أن تفعل هذه الأفعال، وقلنا: إن الكثير مؤثر، فللعلماء وجهان في هذه ضابط هذا الكثير المؤثر: فقال بعض العلماء: الكثير عندي يرجع إلى العرف ومراده بالعرف أنه لو نظر إليه شخصٌ وهو في حال أفعاله وحَكَم بكونه غير مصلٍ بطلت صلاته، وأما لو نظر إليه ورأى أن فعله يسيراً، ولا يخرج في العرف عن كونه مصلياً، فصلاته صحيحة، ويبني على ما مضى.

وقال بعضهم: الضابط ثلاث حركات، وبشرط أن تكون متتابعات، فإن فرق بينها لم يؤثر، فإذا تتابعت ثلاث حركات فأكثر حكم ببطلان صلاته، ويستأنف الصلاة.

وقوله: [فإن أطال الفعل عرفاً] دلّ على أن المصنف رحمه الله يميل إلى التقيِيد بالعرف، كما هو مذهب الشافعية ووافقهم جماعة على ذلك.

وذهب الحنفية إلى الضابط بالعدد وهو عندهم ثلاث حركات متتابعات.

والقول بالعرف من القوة بمكان، ولكن تعتبر الثلاث الحركات في بعض الصور.

<<  <  ج:
ص:  >  >>