بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد فيقول المصنف رحمه الله:[وصريحه].
ذكرنا أن الطلاق له أقسام من حيث حكم الشرع: طلاق سنة وطلاق بدعة، ومن حيث لفظ المطلق: لفظ صريح ولفظ غير صريح، فالآن يشرع المصنف رحمه الله في الجملة الثانية وهي: بيان أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق، ولتوضيح المسائل المتعلقة بهذه الجملة ينبغي أن ننبه على مسألةٍ مهمة، وهي: أن ما يصدر من المكلف يقسمه العلماء إلى قسمين: ظاهر وباطن، فعندنا ظاهر الإنسان وعندنا باطنه، والظاهر يشمل شيئين: القول والفعل، فالفعل كاليد تأخذ أو تضرب، سلباً وإيجاباً، أو الرجل تمشي وتُرفع وتُوضع، هذه أفعال، فعندنا في الظاهر القول والفعل، وفي الباطن النية فقط، فالذي يطلِّق لا بد أن يبحث العلماء فيه اللفظ؛ لأن الطلاق راجع إلى الألفاظ، فكأن باب الطلاق من حيث الأصل مركب على ظاهر المكلف، ومن حيث الاعتداد وعدمه فإن هناك مسائل أجمع عليها العلماء يعتد فيها بالنية، ففي الطلاق ظاهر وباطن، ولذلك يقسم العلماء الطلاق إلى ثلاثة أنواع: طلاق الديانة وطلاق الحكم، وطلاق جامع بين الديانة والحكم.
طلاق الديانة: كرجل تلفظ بكلمة تحتمل الطلاق وغير الطلاق، فسُئِل فقال للناس: ما قصدت الطلاق، وهو في باطنه قد قصد الطلاق، فبينه وبين الله المرأة عليه حرام، ولو كانت الطلقة الأخيرة فإنه يعيش معها بالزنا -والعياذ بالله- وهذا ديانة فيما بينه وبين الله، وكرجل قال لامرأته: هي طالق، وكانت الطلقة الأخيرة، ولم يخبر أحداً حتى امرأته، فالمرأة فيما بينه وبين الله طالق، فلو عاشرها وهي لا تعلم بتطليقه؛ فإنها طالقة ديانة فيما بينه وبين الله، وإن لم يصدر حكمٌ بطلاقها في الظاهر.
أما بالنسبة للفظ المكلف: فتارةً يقول لها: أنت طالق أو طلقتك أو سرحتك أو فارقتك أو أنت خلية، برية، بتة، بتلة، الحرج، أو الحقي بأهلك، أو اغربي عن وجهي، أو اخرجي من بيتي، أو لست لي بامرأة، أو لستِ بامرأتي، كل هذه ألفاظ فيها احتمال أن يقصد الطلاق واحتمال أن لا يقصد الطلاق، وأيضاً هذه الألفاظ إذا تلفظ بها وثبت عند القاضي أنه تلفظ بها؛ فإن القاضي قد يحكم بظاهر بعضها، ويقول: حكمت بأن زوجتك طالق.
أما إن كان في الحقيقة لم يقصد الطلاق كرجل أراد أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، والله يعلم أنه لم ينو الطلاق وأنه قصد طلبتك، وكرجل اشتدت الخصومة بينه وبين امرأته فغضبت المرأة وغضب الرجل، فجرت العادة أن الرجل يطلب من خصمه ومن أساء إليه أن يسامحه، فأراد أن يقول لها: طلبتك أن تعفي عنها، فقال: طلقتك.
ففي هذه الصورة: بساط المجلس بساط غضب، وصعبٌ أن يقول عند القاضي: لم أقصد الطلاق؛ لأن الخصومة قرينة تدل على أنه يريد الطلاق، فجاء بصريح الطلاق، في موقفٍ لا يحتمل غير الخصومة، فصعب أن يقول: ما نويت، فبينه وبين الله لا تزال امرأته زوجة له، مع حكم القضاء أنها طلقة، لكن القضاء لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ لكن في الظاهر يحكم، مثل الشاهد إذا شهد أنه رأى الزاني -والعياذ بالله- وليس هناك معه شاهدٌ آخر، فشهد شهادة الحق أنه رأى فلاناً يزني ولم يكتمل النصاب، فإنه يجلد حد القذف، والله يقول:{فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور:١٣]، أي: في حكمه سبحانه أنهم كاذبون، لكن من ناحية الديانة ومن ناحية الحكم فهو صادق، والرجل مقذوف، لكن يجب عليه الحد.
الشاهد: أن هناك في الطلاق ما هو ديانة وهناك ما هو حكم، والعلماء في كتاب الطلاق تجدهم يقولون: تطلق ديانةً وتطلق حكماً، وتارةً يقولون: ينفعه ديانةً ولا ينفعه قضاءً، فإذا قالوا: قضاءً وحكماً، فالمراد الظاهر، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمع).
فأخذ العلماء من هذا أصلاً: أن الحكم في القضاء على ما يسمع، أما الحقيقة فأمرها إلى الله، فإن خالف الحكم الحقيقة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة.