[من شروط القسامة: اللوث]
قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث]: اللوث: وهو العداوة الظاهرة، واللطخ، وبعض العلماء يرى أن اللوث هو العلامة التي تدل على صدق الدعوة، وفي الحقيقة أن اللوث له ضوابط عند العلماء رحمهم الله، ومما يتميز به وجود العداوة، فإذا كان بين شخص وشخص عداوة، أو بين قبيلة وقبيلة عداوة، أو بين جماعة وجماعة عداوة، ووجد المقتول مقتولاً في أرض الأعداء؛ فإن هذا واضح الدلالة على أنهم هم الذين قتلوه.
وبناء على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه من حيث الأصل لا تقبل القسامة في غير علامة ظاهرة، وأمارة ظاهرة.
ثم اختلف العلماء في هذه العلامة والأمارة، كلهم متفقون على أنه لو وجدت عداوة، أننا نحكم بالقسامة، لماذا؟ لأن الذي كان بين الأنصار وبين اليهود عداوة، ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من الأقضيات في حال مخصوص، على صفة مخصوصة، ووجدت هذه الصفة وهي صفة العداوة، فقالوا: العداوة تنقسم إلى قسمين: عداوة دينية، وعداوة دنيوية.
والعداوة الدينية: مثل ما وقع بين الأنصار واليهود؛ لأن عداوة الأنصار لليهود، وعداوة اليهود للمسلمين أصلها عداوة ناشئة من دينهم المحرف وديننا الأصلي، فهي عداوة عقدية.
كذلك أيضاً تكون العداوة عداوة دنيوية مثل: أن يكون هناك تنافس بين شخصين، أو تحصل فتنة أو خصومة بين اثنين، فحلف أحدهما أن ينتقم، فتوعده وقال: سأريك، أو سأفعل بك، أو سأقتلك، فإذا توعده بالقتل، وشهد شهود أنهم سمعوا أن زيداً قال لعمرو المقتول: سأقتلك، ووجد عمرو بعد ذلك مقتولاً، فإن التوعد السابق بالقتل قرينة وأمارة على اللوث، ومن هنا يستحق أولياء المقتول أن يحلفوا على هذا القاتل.
كذلك أيضاً إذا كان هناك أشخاص معروفين بالأذية والإضرار: كأهل السوء والشر، ووجد بينهم مقتول، فإن هذا يكون علامة وأمارة على اللوث.
قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] قال: (من شروطها) فلها عدة شروط، وهذا من شروطها، وإذا قال العلماء: من شروطها كذا، فإن هذا لا يعني الجمع لكل الشروط.
ومن هنا فائدة المتون أنها تختصر، وإذا قال: من شروطها؛ نبه القارئ على أن هناك شروطاً ينبغي عليه أن يرجع إليها زائدة عن ما ذكر.
ومن هنا قلنا: أول شرط: أن تكون الدعوى في القتل.
ثانيا: أن تكون الدعوى مبيّنة مفسرة لهذا القتل: قتل عمد، أو شبه عمد، أو خطأ.
ثالثا: أن يكون المدعى عليه مكلفاً، إذا لم تكن الدعوى على غير مكلف.
رابعاً: اللوث، وهو الذي أشار إليه رحمه الله بقوله (ومن شروطها اللوث) وهو العداوة الظاهرة.
ومن هنا فائدة في قوله: (من شروطها)، بعض الأحيان ترد هذه العبارة في الفتاوى في كلام العلماء المتقدمين، وينبه على أن بعض العلماء مثلاً لما يُسأل: ما هي أسباب السعادة؟ مثلاً.
فيقول: من أسبابها تقوى الله، من أسبابها كذا، ليس معنا ذلك أنه جمع كل الأسباب، وليس معنى ذلك أنه أراد استيفاء أو بيان جميع أجزاء المسئول عنه، وهذا منهج عند العلماء، أنه إذا عبر بـ (مِنْ) التي تقتضي التبعيض أنه ليس ملزماً بالإحاطة والشمول.
ومن هنا فإن بعض العلماء من المتقدمين رحمهم الله يذكرون في فتاويهم بعض المسائل حينما يسألون في الفتاوى، أو يسألون في الشروط، فيذكرون بعض الشروط لأهميتها، هذا ما يسمونه بفقه الفتوى، أنهم لا يتعرضون لأشياء ظاهرة معلومة، أو يتعرضون لأشياء عظمت بها البلوى فيركزون عليها في الإجابة أكثر من غيرها، ولما يقولون: من الشروط كذا، ومن أسباب السعادة كذا، فقد حفز ونبه السامع إلى أن هناك أموراً ينبغي أن يرجع إليها، إما في كتابه أو في موضع آخر، غير الموضع الذي سئل عنه.
فهذه من فوائد الإشارة في التبعيض، وهي في الحقيقة تسقط المسئولية أمام الله عز وجل، فالمسئول إذا سئل عن أمر وهو يعجز عن إحاطته لضيق الوقت، أو عدم مناسبة المكان، وأراد أن يتخلص من المسئولية أمام الله عز وجل، فيقول: من كذا من الأسباب كذا من الشروط كذا، فهذا لا يكلف فيه بالإحاطة والشمول، وهذا منهج معروف عند العلماء رحمهم الله.
قال: [وهو العداوة الظاهرة]: (وهو) أي اللوث (العداوة الظاهرة) البينة الواضحة، وفي الحقيقة لا يختص الأمر بوجود العداوة فقد، بل تقع القسامة في القتل الخطأ، مثلاً: لو أن شخصاً كان في زحام، ثم سقط ميتاً، وانقشع الناس عنه وهو ميت، وكان معه قريبه، فقال: هذا مات بفعل فلان وفلان، أحدهم كان أمامه والثاني خلفه، فزحماه حتى ضاق نفسه فمات.
أو أحدهما مثلاً وكزه خطأ فمات، ففي هذه الحالة يكون القتل خطأ، حيث أنه لم يقصد أن يقتله، لكن في هذه الحالة لا توجد عداوة ظاهرة، مثل أن يزدحموا على بئر -كما ذكر العلماء-، أو في رمي الجمرات في الطواف، فإذا ازدحموا في مكان ومات أحدهم، يحتمل أمرين: الأول: يحتمل أن يكون مات قضاء وقدراً، وحينئذ لا يجوز لأوليائه أن يحلفوا القسامة؛ لأنه إذا مات قضاء وقدراً لا يستحقون الدية.
الثاني: يحتمل أنه مات بفعل فاعل، بإذن الله عز وجل وقدرته، فهذا الفعل تسبب في موته، وحينئذ يستحقون القسامة، فإذا استحقوا القسامة استحقوا الدية، لكن هذا يقع في صور، ويغلب على الظن فيها أن توجد الأمارات والدلائل، لكن في قوله رحمه الله (من شروطها اللوث وهو العداوة الظاهرة) طبعاً في بعض الأحيان يكون القتل عمدا، ً ونجد علامة ظاهرة بغير لوث، مثل أن نجد شخصاً حاملاً لسكين ملطخة بالدماء، وهو واقف على رأس القتيل، فلما أخذ، ما أقر، قال: ما قتلته.
وإذا بثيابه ملطخة بدم القتيل قالوا: هذا أيضاً من اللوث، ومما يبيح ويحل القسامة على هذا الشخص فيحلفون خمسين يميناً، ويستحقون به.
إذاً: لابد للعلماء أن يضعوا شروطاً لكي يحكم بالقسامة، فإذا لم تتوافر هذه الشروط التي منها اللوث، وما ذكرناه من الشروط؛ فإنه حينئذ تصبح الدعوى على الأصل.
ما معنى على الأصل؟ معناه أن نقول للمدعي: أحضر البينة، فإذا قال: ما عندي بينة، نقول للخصم: احلف اليمين, وتنتهي القضية.
والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين هذا أصل في القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة أي أن حالة العموم واضحة، فلو جاءنا أصدق الناس، وقال: فلان قتل فلاناً؛ فإننا لا نقبل منه دعواه هذه، ولو كان أصدق الناس، ما لم يقم دليلاً وحجة.
ولو جاءنا أفجر الناس وأفسق الناس وقال: فلان قتل فلاناً، نقول: أحضر بينة؛ لأننا لا نحكم بكلامه، وإنما نحكم بالبينة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألك بينة) للخصم لما ادعى، (لو يعطى أناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم) وعلى هذا لابد من وجود البينة.
ومن هنا قال العلماء: القسامة خرجت عن الأصل، وما معنى خرجت عن الأصل؟ معنى ذلك أنها استثنيت من الأصل العام، ليس المعنى أنها شاذة، كما يفهم البعض، أو أنها شيء عقلي خرجت عن القياس أو أصبحت خارجة عن العقل والنقل، لا إنما في الشرع أصول عامة كما ذكرنا خرجت القسامة عنها، فإذا لم يتوفر شرط اللوث رجعت المسألة إلى العرف القضائي، نقول له: أحضر بينة، فإذا عجز المدعي عن دعواه، نطالبه بيمين واحدة، ما نطالبه بخمسين يميناً، ومن هنا نفهم أن القسامة باب خاص، وله أحوال خاصة -كما ذكرنا.