للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم طلاق السكران]

قال المصنف رحمه الله: [ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه] قوله: (ومن زال عقله) هذا مُفَرَّع على قوله: (مكلَّف).

فالتكليف يستلزم وصفين: البلوغ والعقل.

فمفهوم الشرط في قوله: (مكلف)، أنه إذا كان غير مكلفٍ لا يقع كما ذكرنا، قلنا: يزول العقل بالجنون أو بالسكر، والمسْكِر والمخَدِّر حكمهما واحد من حيث تفصيل العلماء.

أما إذا كان سكراناً زائل العقل فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكون سُكْرُه وزوال عقله على وجهٍ مأذونٍ أو معذورٍ به شرعاً، مثل أن يشرب عصيراً فيَتبين أنه خمر، فمثل هذا يسمى بالسكران المعذور في سكره، فهذا يُعذر، ويُنَزَّل منزلة المجنون ولا يؤاخذ، وحُكِي الإجماع على هذا كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله على أن السكران المعذور تسقط عنه المؤاخذة في جملة المسائل.

كذلك أيضاً في حكم المعذور ما يقع في التخدير، فلو أنه وُضِع المخدر في شرابٍ وهو لا يدري؛ فإنه إذا شربه وتكلم بالطلاق وتلفظ به لم ينفذ الطلاق.

كذلك أيضاً المخدِّر الجراحي، مثل ما يقع في العمليات الجراحية، حيث يُوضع المخدِّر في العملية الجراحية فإذا جاء قبل الإفاقة يتكلم ويتلفظ فتلفظ بتطليق نسائه، أو بطلاق زوجته فإنه لا ينفُذ؛ لأن تخديره كان على وجهٍ معذورٍ فيه شرعاً.

وهذا نص عليه جماهير العلماء، كالإمام ابن قدامة والإمام النووي وغيرهم رحمةُ الله عليهم: أن السكران زائل العقل إذا كان زوال عقله بسبب يُعذر فيه شرعاً أنه لا ينفذ طلاقه.

الصورة الثانية: أن يكون سُكره وزوال عقله على وجهٍ لا يُعذر فيه شرعاً، وهذا مثل -والعياذ بالله- من يشرب الخمر عالماً بها معتدياً لحدود الله عز وجل.

فللعلماء في السكران إذا طلق حال سكره قولان: القول الأول: لا ينفُذ طلاقه ولو كان متعمداً للسكر، وهو مذهب الظاهرية وطائفةٍ من أهل الحديث ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أن السكران المتعمِّد للسكر ينفذ عليه طلاقه.

واحتج أصحاب القول الأول -أن السكران الذي لا يُعذَر في سُكره لا ينفذ طلاقه- بدليل الكتاب والسنة.

أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:٤٣] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أن السكران لا يعلم ما يقول، وإذا كان لا يعلم ما يقول كان كمن يهذي بما لا يعلم، فهو غير مطَلِّق حقيقة، وعليه قالوا: لا ينفُذ طلاقه.

واستدلوا بالسنة: ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أسقط المؤاخذة في قول السكران، وذلك ما جاء في الصحيحين من حديث حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما كانت الخمر حلالاً شربها في أول مقدمهم إلى المدينة، وكان علي رضي الله عنه قد أعد مهر فاطمة لكي يدخل بها، وكان له بعير شارِف، فأناخه بباب حمزة رضي الله عنه ثم ذهب، فشرب حمزة فثمِلَ في شربه، فغنته الجارية، فانتشى رضي الله عنه، فجَبّ سنام البعير، فجاء علي رضي الله عنه ورأى ما هاله، فذهب يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف على عمّه حمزة فوبخه وقرعه، فرفع حمزة رأسه إليه وقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم إلا عبيدٌ لآبائي) ولما قال هذه الكلمة تنبه عليه الصلاة والسلام أنه سكران، ولم يكن يعلم أنه سكران، فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع عليه الصلاة والسلام القهقرى، ولم يؤاخذ حمزة بهذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة لو قالها رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لكفر؛ لأن المقصود بها السخرية والحط من القدر، فلما قالها وهو في حال سكره لم يؤاخذه النبي عليه الصلاة والسلام بها.

ونص العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط المؤاخذة بالرِّدّة في حال السكر، والردة قول، ولم يؤاخذه مع أنه سكران، لكن ردوا على ذلك بأن حمزة كان معذوراً في سكره، حيث كان الخمر مُبَاحاً، ورُدّ على ذلك بأن المؤاخذة مرتبطة بالعقل والإدراك، وليست القضية قضية كونه مباحاً أو محرماً.

كذلك قالوا: إن الأصل يقتضي أن التكاليف منوطة بالعقل، والتكاليف من حيث المؤاخذة وعدمها تكون مرتبطة بالعقل، والسكران لا عقل له.

والظاهر أن السكران يمر في سكره بثلاث حالات، ينبغي فيها التفريق في الحكم على ما يبدر منه في كل حالة على حده، وهذه الحالات هي: الحالة الأولى: أن يكون في بداية الهزة والنشاط والنشوة.

والحالة الثانية: أن يكون في غاية السكر، وهي التي يسقط فيها كالمجنون، لا يعرف السماء من الأرض، ولا يفرق الأشياء ولا يميزها تماماً كالمجنون.

والحالة الثالثة: أن يكون بينَ بين، يصحو ويلغو، ويكون عنده تمييز وعنده تضييع.

فأما الحالة الأولى: وهي بداية الهزة والنشاط، فمن شرب الخمر وكان في بداية الهزة والنشاط والفرح وطلَّق، فبالإجماع ينفُذ عليه الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة لا يزول عنه الشعور، بل يكون مالكاً لنفسه، وهذا الحكم سارٍ على جميع الأحكام القولية والفعلية، فلو قتل أو زنى أو فعل أي شيء وهو في بداية الهزة والنشاط مالكاً لنفسه؛ فإنه يُؤاخذ.

الحالة الثانية: إن كان في غاية السكر وهي نهايته المطبقة التي يسقط كالمجنون، لا يفرق تماماً بين الأمور، ولا يعرف السماء من الأرض، فقالوا: إن هذا لا يؤاخذ، وجهاً واحداً عند العلماء، وعند أصحاب القولين أنه يكون كالمجنون.

الحالة الثالثة: هي الحالة الوسط وهي ما إذا كان السكران أحياناً يقول شيئاً صحيحاً وأحياناً وشيئاً خاطئاً، ويكون عنده تمييز وتضييع.

وفي هذه الحالة اختلف العلماء في وقوع الطلاق، فمنهم من يقول: يقع طلاقه؛ لأن الأصل فيه أنه مُفِيق؛ فإذا كان في حالة لم يصل فيها إلى الجنون يقولون: نستصحب حكم الأصل -أنه مفيق- فينفذ عليه الطلاق.

وأما الذين قالوا: إنه لا ينفذ عليه الطلاق، قالوا: إنه بدخوله الحالة الوسط هذه دخل في حالة الخلط، واختلط علينا أمره ولم نميز حاله، ولما كانت حالة غياب العقل والتأثير فيه والشبهة قائمة وموجودة؛ فإننا نعمل الأصل أنها زوجته، ولا نطلِّقها إلا بيقين، وإذا شككنا في هذا الطلاق، هل هو صادر عن قصد أو غير صادر عن قصد، وهو إذا عَقَل ورجع إلى صوابه إن أراد أن يطلِّق طلَّق، قالوا: ففي هذه الحالة وهو مختلِط فالأصل أنها زوجته، ونَشُك في تأثير هذا الطلاق فنسقِط هذا التاثير ونبقى على الأصل، هذا وجه التردد في الحالتين.

أما الذين قالوا: إنه ينفذ، فإنهم استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:٤٩]، فاستدلوا بعموم الآيات في الطلاق، قالوا: إن الله عز وجل جعل الحكم مرتباً على وجود اللفظ، ولم يفرق بين من يعيه وهو الصاحي وبين من لا يعيه وهو السكران.

الدليل الثاني: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق).

فجعل الهازل الذي لم يقصد الطلاق مؤَاخذاً بقوله، فالسكران قَصَد أو لم يقصد نؤاخذه بقوله كالهازل.

والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بعدم وقوع طلاق السكران؛ وذلك إذا كان سكره مغيِّباً لعقله، لصحة ما ذكروه من أدلة الكتاب والسنة، والأصل كونها زوجةً له، وفي عصمته، فلا تبين من عصمته إلا بدليلٍ قوي.

ومن أقوى ما يرجح قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لا طلاق في إغلاق) وهو يشمل السكران والغضبان الذي أطبق عليه الغضب فاستغلقت عليه الأمور، والسكران تستغلق عليه الأمور؛ لأنه بوجود الخلط فيه لا شك أنه يتلفظ بما لا يحب أن يتلفظ به، وشُبهة السكر فيه قوية، وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة بقول السكران، ودلّ دليل الكتاب على أن السكران لا يعي ما يقول.

وبناءً عليه، فإنه يقوى قول من قال: إن السكران لا ينفذ طلاقه.

قوله: (من زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه)، مثل المخدر في العملية الجراحية، ومثل من وضع له مخدر وهو لا يعلم، مثل من سكر بشرابٍ يظنه عصيراً فبان خمراً فهذا معذور.

قوله: (وعكسه الآثم) أي: أن من شرب الخمر آثماً متعمداً عالماً فإنه ينفذ طلاقه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>