وبعد هذا تتقيد بهذا العالم، وهذا ما يسميه العلماء بمرحلة الاتباع، فتتقيد به حتى تدرس أصول الفقه، وتعرف الذي خالفه، وما دليله، وهل الحجة مع شيخك؟ أو مع من خالفه؟ فقبل أن تصل إلى هذه المرحلة تلزمك مرحلة التتبع، ويلزمك هذا الأصل؛ لأنك تسير على أصول وضوابط، ولو أنك انتقلت إلى غيرك فقد نفّقت، فقد يكون هذا الشيخ أعمل دلالة أسقطتها أنت في العبادة والمعاملة، وحينئذ تعمل بدليل الاضطراب، وهذا ما يعنيه العلماء بالاتباع، وإذا أخذت قول شيخ بدليل تقول: هذا الذي تعلمته، وهذا الذي أعرفه، وهذا الذي تذكره قول لبعض العلماء، لكن هذا الذي درسناه، وهذا تعلمناه، وانتهى الإشكال، قولكم خطأ، وقولنا صواب، وكذا، وإقامة الدنيا.
ومما أوصي به طالب العلم، وهذا من نعم الله عز وجل عليك: ترك الجدال والمناقشة، كثير من طلاب العلم الآن-إلا من رحم الله- محقت منه البركة، وضاع عليه وقت كبير من وقته وعمره بسبب المناظرة، كل شخص يبحث مسألة يريد الأقوال فيها، والردود، والمناقشات؛ لأنه مولع، ويريد من يناقشه حتى يرد عليه، وهذه هي آفة العلم، فعليك-رحمك الله- أن تقرأ، والحكم بدليله، وتتقيد بهذا الحكم والدليل، حتى تصل إلى مرتبة أهل العلم الذين يجتهدون، فإذا سرت على هذا الطريق جمع لك من العلم ما لا يحصى، ولذلك كان الإمام شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة معروفاً عنه أنه لا يمكن أن يجادل أحداً، وهو على درجة من التثبت والرسوخ في العلم، وكان معروفاً عنه أنه إذا جلس في مجلسه، وسأله أحد سؤالاً، ثم فتحوا باب المناقشات، لماذا؟ وكيف؟ هذا ليس من باب الاستفادة، باب الاستفادة -هذا نقله إلي الوالد رحمه الله- بمجرد أن يأتي ويقول: لماذا؟ ويقوم هذا ويقول: لا، قال فلان، قال علان، يتركه، ويقوم من المجلس، ولا يمكن أن يجلس مجلساً فيه هذا اللجاج والمناظرة؛ لأن القلوب تفسد، ويحدث نوع من الغرور للمتكلم أو للسامع أو للمعترض عليه، وقد تحط من قدر العالم، ولذلك فالسلامة غنيمة، من عنده علم عمل بالدليل: ما علمت فقد كفاني وما جهلت فجنبوني مادام أني أخذت هذا العلم عمن يوثق بعلمه ودينه، فيجب أن أضبط هذا العلم، وأعكف عليه، وستضبط كتب العبادة والمعاملة بهذه الطريقة التي لا تشويش فيها، وليس عندك أحد يدخل عليك الشبه حتى تضبط، وبعد ما تضبط يفتح الله عز وجل عليك، وتتوسع في أصول الفقه، وضوابط العلماء في الاستدلال، ووجه الدلالة، ثم تنكشف لك الأدلة، ثم تبحث، وهذا من أفضل ما يكون.