بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب جزاء الصيد].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالتحكيم في قتل الصيد، وقد ذكرنا أن الصيد حرام على المحرم، وأنه يجب عليه الجزاء إذا قتل الصيد، وبينا طريقة هذا الجزاء، وذكرنا ما بينه العلماء رحمهم الله من المسائل المتعلقة بجزاء الصيد من حيث الجملة، وهنا سيذكر المصنف رحمه الله جملة من المسائل التي تتعلق بالأحكام المنصوص عليها إما مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفة على الصحابة، وتوضيح ذلك: أن جزاء الصيد يفتقر إلى حكم عدلين كما ذكرنا، فلو أن المحرم قتل غزالاً أو قتل ظبياً أو قتل حمار وحش أو قتل بقرة وحش فيجب عليه أن يحتكم إلى عدلين ينظران في الشيء الذي قتله المحرم وعدله من بهيمة الأنعام، فمثلاً: إن كان الذي قتله نعامة فعدلها بدنة، وإن كان الذي قتله حمار وحش فعدله بقرة، وإن كان الذي قتله تيس جبل فعدله الشاة، لكن هذا العدل يفتقر إلى حكمين عدلين ينظران في الشيء الذي قتله والشيء الذي يماثله ويشابهه، فلما كان الحكم الشرعي المجمع عليه في الأصل ينص على هذا فإنه من المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم وقعت لهم حوادث في قتل الصيد من المحرم فاحتكموا إلى غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أقضية عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وهذه الأقضية وردت عن الصحابة، وقول الصحابي حجة عند طائفة من العلماء، فكأنهم رأوا أن ما قضى فيه الصحابة وما ورد فيه الخبر والأثر عنهم أنهم حكموا فيه فإن ذلك الحكم باق إلى قيام الساعة فلا يتغير، وهذه مسألة لها نظائر، فالمسائل: التي ورد فيها الحكم من الصحابة أو من النبي صلى الله عليه وسلم في الأقضية التي في أصلها تقبل الاجتهاد هل يبقى حكمها إلى قيام الساعة أم يتجدد؟ فمذهب طائفة من العلماء: أن ما قضى فيه الصحابة لا يتجدد، ولا يحتاج إلى عدلين، فمن قتل حمامة فإن الصحابة قضوا فيها شاة، فنقول له: عليك شاة، ولا نبحث عن مسألة الحكمين العدلين، كأنهم رأوا أن حكم الصحابة بعدل الشاة يعتبر حكماً باقياً إلى قيام الساعة، وهذا بالنسبة لقضاء الصحابة رضوان الله عليهم.
أما بالنسبة للذي لم يقض فيه الصحابة، أي: الذي لم يرد عن الصحابة رضوان الله عليهم فيه حكم، فهذا يرجع إلى العدلين إعمالاً للأصل.
وهناك أمثلة كما ذكرنا منها: الحِمى، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه حمى ما يسمى اليوم بالعطن في المدينة وهو بجوار مسجد السبق، هذا الموضع حماه، وحمى وادي الفرع، وحمى كذلك صلوات الله وسلامه عليه بالربذة، فهل هذا الحِمى يبقى إلى قيام الساعة حمىً، أم أنه حماه لأنه كان محتاجاً إليه في ذلك الزمان؟ فمن أهل العلم من يقول: تبقى مسبّلة إلى قيام الساعة حِمىً.
ومنهم من يقول: إنها تتغير بتغير الأزمنة والعصور.
فإذا كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فإنه يتغير الحكم بالنسبة لما جدّ وطرأ من العصور بعدها.
هذا بالنسبة لمسألة قضاء الصحابة في صيد المحرم: هل يبقى إلى قيام الساعة، أم أنه قضاء اجتهادي يمكن أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟ والذي عليه جمهور العلماء: أنهم كانوا يعتدون بقضاء الصحابة، ويرون أن الصحابة رضوان الله عليهم حجة في هذا القضاء؛ والسبب في هذا واضح فإن الصحابي حينما نظر إلى بقر الوحش ونزله منزلة البقرة وقضى فيه بالبقرة، فلا شك أنه أعلم وأعرف بالنص الوارد وبدلالته، فكونه يأتي إلى هذا الشيء وينزله منزلة نظيره من بهيمة الأنعام فإن حكمه واضح في إصابة الحق وقربه من الصواب، ولذلك يقوى القول بأن ما قضت به الصحابة يرجح أن يترك إلى قيام الساعة حكماً باقياً.
وعلى هذا: فإن المصنف رحمه الله قرر لك الأصل في جزاء الصيد أنك تحتكم إلى عدلين، وأنهما يحكمان بالمثل إن وجد المثل ثم ينتقل إلى قيمته وعدله من الطعام بتلك القيمة ثم ينتقل إلى عدله من الصيام كما تقدم معنا شرحه في المجلس الماضي، بعد أن بيّن لك هذه القاعدة شرع الآن في بيان ما ورد فيه الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضائهم به.