[جواز شركة الأبدان في الاحتطاب وما شابهه]
قال رحمه الله: [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات]: شركة الأبدان تقوم على الصناعات والحرف اليدوية وما في حكمها.
ويمكن أن يتفقا حتى في الغزو والغنائم، وما كان في أيام الجهاد في سبيل الله، الذي هو التلصص على دار المشركين إذا كانوا غير مسالمين، فيجوز حينئذٍ أن يتفقا مع بعضهما على أخذ الغنيمة، كأن يغزوا مع بعضهما، فإذا غنم أحدهما غنيمة قُسمت بين الطرفين على ما اتفقا عليه؛ لأنها وردت في قصة عبد الله بن مسعود، والحديث فيه انقطاع؛ لأن أبا عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود قيل: لم يسمع من أبيه لصغر سنه؛ لكن -في الحقيقة- متن الحديث قوي وتشهد الأصول بصحته واعتباره.
هذه المسألة التي ذكرها المصنف: الاحتشاش والاحتطاب، وكلٌّ من الحشيش والحطب مما يُباح ويُملك بالأخذ، يعني: لو خرج إنسان معه آله الحش، فوجد حشيشاً في أرض غير محرمة -التي هي الحمى ونحوها- وحش حشيشها، فيكون قد مَلَك الحشيش بحشه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون شركاء في الماء والكلأ والنار)، فأثبت أنهم شركاء في الكلأ، وأنه لا حِمى إلا ما حَمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا ثبت أن الحشيش مباح، وأنه يجوز للمسلم أن يأخذ الحشيش متى وجده، فحينئذٍ يَرِد
السؤال
هل يجوز أن يشترك الطرفان فأكثر على الاحتشاش؟ أخذ الحشيش في بعض الأحيان يكون فيه مصلحة؛ لأنه إذا جُزَّ الحشيش يمكن أن يباع علفاً للدواب، فيُشترى من الطرفين، فلو أنهما اتفقا أن يخرجا إلى البر في أيام الربيع ونحوه على أن يحشا الحشيش ويجمعانه ويبيعانه جاز ذلك.
في زماننا: الطرف الذي يستخدم في (المساند) ونحوها، لو أنهما اتفقا على أنهما يخرجان إلى البر، ويجمعان هذا الطرف ثم يجعلانه في أكياس ويبيعانه، فهذا أيضاً تجوز عليه شركة الأبدان.
كذلك الحطب لو أن كلاً منهما يعرف طريقة الحطب والاحتطاب، فاتفقا على أن يخرجا إلى البر ويحتطبا الخشب والشجر (والسمر) ثم بعد ذلك يقطعانه ويفصلانه، أو يحرقانه فيجعلانه فحماً كل ذلك جائز.
لكن شدد في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله ومنعوا من الاشتراك في المباحات، فلا تجوز شركة الأبدان عندهم في الاحتطاب، ولا تجوز في الاحتشاش، وكذلك في جلب الماء، فإن جلب الماء واستخراجه من الآبار يعتبر من المباحات؛ لأن مَن نزح ماءً من بئر فقد مَلَك هذا الماء.
وفي زماننا -مثلاً- لو اتفق صاحبا نقل المياه على أنهما يعملان مع بعضهما في نقل الماء، وكل منهما عنده سيارة لنقل الماء، قال أحدهما: يا فلان! أنا وأنت نتقبل من الناس الطلبات وكل منا يقوم مقام الآخر في تلبية ذلك، واتفقا على ذلك، وأخذا يعملان شهراً كاملاً، واجتمعت -مثلاً- مائة ألف ريال من هذه الوايتات -أو نحوها- التي تم بها جلب الماء، واتفقا على قسمة المال بينهما، فيُقسم المال بينهما بالسوية، أو على الاتفاق الذي اتفقا عليه.
وكذلك مثلما تكون الشركة على الاحتطاب -كما ذكرنا- أو الاحتشاش، وهذا على أصح قولي العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة، وطائفة من أهل الرأي، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه الذي خالف الجمهور مع أنه رحمه الله يقول بجواز شركة الأبدان؛ لكنه ينازع في هذا النوع من الشركة ولا يجيزه، والسبب في هذا يقول: إن الحشيش والحطب يُملك بمجرد الأخذ، ومن أخذه ملكه، وحينئذٍ لا تقع عليه الشركة، على ما اختاره رحمه الله.
ولكن أجيب عن ذلك بأن هذا الاحتشاش والاحتطاب يمكن أن تدخله الملكية بدليل الإجارة عليه.
ولذلك رد أصحاب القول الأول الذي ذكرناه على ما اختاره المصنف رحمه الله بأنه يُملك بالأخذ على أصل السنة، ويملك بالاتفاق عليه إجارةً، فلو أعطيت رجلاً مائة ريال على أن يحش لك أرضاً محددةً وقلت له: حُشَّ هذا الحوض ولك مائة ريال، صحت الإجارة، وصار تابعاً لك، فإذا كان بالإجارة بموجب عقد الإجارة والاتفاق، كذلك أيضاً تصح بموجب عقد الشركة؛ لأن الشركة فيها وجه معاوضة، فكأن عمل أحدهما صار في مقابل عمل الآخر، وعلى السنن الذي ذكرناه في أول باب الشركة.