أما التأويل المحمود: فهو تأويل النص بنص يصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، فحينئذٍ نقول: إن هذا التأويل تأويل محمود، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)(لا وضوء) يحتمل: لا وضوء صحيح، ويحتمل: لا وضوء كامل، فلما وجدنا كتاب الله عز وجل لا يأمر بالتسمية مع أنه أمر بالتسمية عند الذبح والذكاة فقال:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}[الأنعام:١١٨]{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}[المائدة:٤] فلما وجدناه في الوضوء وهو من أجل العبادات وأعظمها -لأنه مفتاح الصلاة- لم يأمر بالتسمية فيه فهمنا أن معنى: لا وضوء أي لا وضوء كامل، فصرفنا (لا وضوء) من نفي الصحة إلى نفي الكمال، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان في الصحيح- يتوضأ وضوءاً تاماً كاملاً، ولم يذكر عثمان أنه تلفظ بالتسمية جهرة، أو اطلع على تسمية منه، فقال: إنه توضأ نحو وضوئي هذا، وهذا يدل على أن الأفعال كانت دون ذكر ودون أي قولٍ، فهذا يدل أيضاً على أن المراد بالحديث الأول: لا وضوء كامل، فيصرف النص من ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح؛ لأن الأصل أن نحمله على أنه: لا وضوء صحيح.
مثال آخر:(لا إيمان لمن لا أمانة له) لا نقول لا إيمان يعني أنه -والعياذ بالله- كافر بالكلية، كما يقوله الخوارج، وإنما نقول: إنه إذا كان خائناً للأمانة فقد انتقص من دينه وإيمانه على قدر خيانته -نسأل الله السلامة والعافية- فيؤول ويصرف الحديث عن ظاهره لوجود نصوص أخرى تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، فهذا تأويل، لكنه تأويل محمود؛ لوجود نصوص يعرفها العلماء الراسخون والأئمة المهتدون المهديون، فهؤلاء إذا أولوا نصاً وصرفوه عن ظاهره فإننا نقبل هذا التأويل، ولا نلجأ للتأويل إلا عند وجود نصوص أخرى تصرف النص الأول عن ظاهره.
مثال آخر:(لا يدخل الجنة عاق) لو أخذ على ظاهره لكان معناه أن العاق في النار: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[الشورى:٧] فإذا أخبر أن العاق لا يدخل الجنة فمعنى ذلك أنه في النار؛ لأنه لا يوجد منزلة بين المنزلتين.
فهذا الحديث يؤول على وجوه: الوجه الأول: لا يدخلها في الدخول الأول الذي يكون لأهل الجنة السابقين؛ لأنهم يخرجون من عرصات يوم القيامة فيدخلون الجنة، وأما أهل الكبائر فإنهم إذا شاء الله يدخلون النار تطهيراً ثم ينقلون إلى الجنة، فحينئذٍ يكون الدخول هو دخول التشريف والتكريم؛ ولا يمنع من دخولهم الجنة بعد أن يطهروا من كبائر الذنوب، فكأن العاق -والعياذ بالله- موعودٌ بالعذاب لا محالة.
الوجه الثاني: قال بعض العلماء: المعنى: أنه لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يختم له بخاتمة أهل الإيمان، فيكون المراد: أنه لا يوفق، فلا يدخلها حقيقة؛ لأنه يختم له -والعياذ بالله- بخاتمة الكفار، وهذا قد يقع استدراجاً، فحينئذٍ لا تتعارض النصوص؛ لأنه إذا ختم له بخاتمة السوء فلا إشكال.
الوجه الثالث: أنه محمول على الوعيد، كما اختاره سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان يقول: هذا محمول على الوعيد الشديد، وحينئذٍ لا يكون على ظاهره.
هذا كله تأويل؛ لوجود نصوص أخرى تدل على أن الكبائر لا تستوجب الخلود في النار أبداً، وإنما تستوجب دخولها تطهيراً إن لم يعف الله عن العبد؛ لأن مرتكب الكبائر عند أهل السنة والجماعة تحت مشيئة الله، إن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض إحسانه وكرمه وفضله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:٢٣]{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[الرعد:٤١].
الشاهد أن هذا تأويل، لكنه تأويل بنصوص وأدلة، فهو تأويل محمود.