والأصل في مشروعية العفو دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، حيث أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو.
فأما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}[البقرة:١٧٨]، فجعل الله عز وجل لأولياء المقتول أن يعفوا عن القاتل، ورغب الله سبحانه وتعالى في العفو فقال سبحانه:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة:٢٣٧]، فمن عفا عن القصاص والقود فإنه بخير المنازل عند الله سبحانه وتعالى، وذلك أن العفو إذا كان عن الجناية العظيمة كان أجره أعظم، وثوابه عند الله تعالى أكبر؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يعفو عن دم قريب من أقربائه إلا بقوة إيمان وحسن ظن بالله عز وجل، ورجاء في عفوه وكرمه وإحسانه، والله عز وجل يعامل عبده بالإحسان إذا عمل الإحسان مع خلقه، وإذا تولى الناس بالرحمة تولاه الله تعالى برحمته.
ولذلك جاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فقال صلى الله عليه وسلم:(ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا الحديث رد النبي صلى الله عليه وسلم فيه ظنون أهل الجاهلية، فإن أهل الجهل في كل زمان إذا أراد الإنسان أن يعفو قالوا له: أنت جبان، وأنت ضعيف، وأنت لا تحترم حقك ولا تأخذ بحقك، وأنت وأنت.
، فيجعلون العفو في نظره منقصة، وذلة وهواناً، فكَذَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقال:(ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، فمن عفا عن أي ذنب، وعن أي جريرة، وعن أي أذية من إخوانه المسلمين، فإن الله عز وجل يبدله بهذا العفو عزاً، فإذا عظم العفو عظمت رفعة الله عز وجل للعبد وإعزازه له وإكرامه له.
ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو، وقد جعل الله تعالى لهذه الأمة الخيار بين القصاص وبين العفو إلى الدية، وبين العفو بدون أخذ الدية، فالعفو عفوان: عفو بدون عوض، وهو أعظم العفوين وأجلهما وأكثرهما ثواباً عند الله عز وجل، فلو أن شخصاً قتل له قريب فقيل له: تقتص؟ قال: لا أريد القصاص، فقيل له: تعفو وتأخذ الدية؟ قال: لا أريد الدية، وإنما عفوت لوجه الله عز وجل، فهذا وأمثاله ينطبق عليه قوله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى:٤٠]، فإذا كان يوم القيامة تولى الله أجره وثوابه، ولذلك انظر إلى قوله سبحانه:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى:٤٠]، ولم يبين الله عز وجل هذا الأجر والثواب كيف يكون؟ وكم يكون؟ وهذا يدل على أن الله تعالى يتولى جزاءه؛ لأن الأذية والشرور والمظالم والجنايات تتفاوت، والنفوس تتفاوت، وضيق الحال يتفاوت بالإنسان، فالذي يعفو عن القصاص والدية عمن يرجو صلاحه ويرجو هدايته واستقامته، ويكون سبباً في هدايته واستقامته، ولا يُحمِّله الدية، بل يستغني بغنى الله تعالى، فإن الله عز وجل يعوضه عن ذلك كله خيراً، فيعوضه خيراً في الدنيا، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:(ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، ويعوضه خير الآخرة، فأجره على الله تعالى إذا كان يوم القيامة.
وقد جاء في الأثر:(أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا من عفا عن مظلمة)؛ لأنه جعل الأمر إلى الله عز وجل أن يتولى جزاءه وثوابه، وقل أن تجد إنساناً يعامل الناس بالعفو إلا وجدت أمره على اليسر وعلى السماحة وعلى العزة والكرامة، فعدوه يريد أن يهينه والله تعالى يكرمه، وعدوه يريد أن يذله بتلك الأذية فإذا به بعفوه يرفعه الله تعالى ويعزه، والله جل وعلا عليم بخلقه، حكيم في تدبيره سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فهو العدل سبحانه وتعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن أعظم الإحسان العفو، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو عن القصاص.