[خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه]
أما إذا خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه، فهذا يأتي على أحوال: ففي ببعض الأحوال تكون عين المغصوب موجودة، ولكنها تمتزج مع الشيء الذي اختلطت به من جنسها كزيت بزيت، وأرز بأرز، وبر ببر، وتمر بتمر -من نوع واحد- فحينئذ عين المغصوب موجودة، ولكن لا نتمكن من فصل حق الغاصب من حق المغصوب منه.
الصورة الثانية: أن يكون الخلط بشيء ليس من جنس المغصوب، كأن يخلط -كما ذكر المصنف- الدهن بالسويق، فحينئذ الدهن شيء والسويق شيء، لكن حينما خلطا مع بعضهما صارا كالشيء الواحد، وكمن اغتصب سمناً فصنع به طعاماً، وكمن اغتصب دهناً من زيت ونحوه فقلى به طعاماً أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يكون الحكم مخالفاً للمسألة الأولى.
إذا خلط المغصوب بشيء من جنسه: كأن يجعل الزيت مع الزيت والأرز مع الأرز والتمر مع التمر، فحينئذ إما أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أغلى ثمناً وأجود، وإما أن يكون مثله في الجودة والثمن، وإما أن يكون أردأ منه، كرجل أخذ منك لتراً من زيت الزيتون ووضعه مع لتر آخر من زيت الزيتون، فإما أن يكون مثله في القيمة والجودة والرداءة ومن نوع واحد وقيمتهما واحدة، وإما أن يكون أغلى منه وأجود منه -الذي يكون حق الغاصب - أو يكون حق المغصوب أغلى وحق الغاصب أرذل.
فإذا خلطه بمثله وكانا بصفة واحدة وثمن واحد، فحينئذ قال طائفة من العلماء: يجب على الغاصب أن يرد قدر المغصوب، فلو اغتصب صاعاً من تمر وخلطه مع صاع آخر، نقول له: خذ من هذا المخلوط صاعاً واحداً، وفقه المسألة يقوم على أن الغاصب له حق، والمغصوب منه له حق، وكلا الحقين مشتركان في الصاعين، فلو أننا قلنا لصاحب المغصوب: خذ الصاعين.
ظلمنا الغاصب، ولو أننا قلنا للغاصب: خذ الصاعين.
بقي الأصل كما هو والظلم كما هو، فالعدل أن يقال: رد إلى صاحب العين المغصوبة قدر ما اغتصبت صاعاً أو لتراً -إذا كان زيتاً أو نحوه- فإذا رده ربما يعترض معترض ويقول: إننا لم نرد عين المغصوب؛ لأن الذي رُدَّ هو المغصوب، ومعه حق الغاصب، ف
الجواب
رددنا عين المغصوب ورددنا مثله، والضمان في الغصب إما أن ترد الشيء المغصوب أو ترد ما هو مثل له، فلو أنه اغتصب صاعاً وخلطه بصاع آخر وامتزجا مع بعضهما فإنه حينئذ لو أنك أخذت صاعاً من هذا المخلوط، وقدر نسبة المغصوب النصف، فالنصف الثاني يعتبر بمثابة المثلي للمغصوب؛ لأنه مثله في الجودة، ومثله في القيمة والسعر، فليس هناك ضرر، فإذا قال لك قائل: لماذا عدلت إلى المثلي؟ تقول: لأنه تعذر العين، وتعذر أن نضمن العين، فنلزمه بضمان المثل، والشريعة تلزم بالعين متى أمكن ردها، وتلزم بالمثلي إذا تعذر رد العين، وهذا هو المذهب الصحيح؛ أنه إذا خلط الصاع بصاع مثله؛ وجب ضمان الصاع من المخلوط، إذا اتفقا جودة ورداءة واتفقا قيمة، فحينئذ يضمن لصاحب الحق بقدر حقه قل أو كثر.
وهناك من العلماء من يقول: يخير الغاصب، ونقول له: أنت بالخيار إن شئت أخذت صاعاً من هذا الذي اختلط، وإن شئت طالبت بالمثلي من خارج المخلوط، ولكن الصحيح ما ذكرناه، أنه يضمن له حقه؛ لأنه إما أن يأخذ العين أو يأخذ المثل، وعندنا قاعدة وهي: (أنه لا يصار إلى البدل متى ما أمكن الرجوع إلى العين).
أي: ما دام أنه يمكننا أن نرجع إلى العين ونستوفي منها الحقوق، فلا يمكن أن ننتقل إلى البدل والمثل، وهنا لو قلنا له: أعطه صاعاً مثل الصاع الذي أخذته، فإنه يضمن البدل ولا يضمن الذات، ولا شك أنك لو ضمنت بعض الذات أفضل من أن يكون الضمان خارجاً عن الذات كلها، ولهذه القاعدة دليل سنبينه -إن شاء الله- في قصة حكومة سليمان مع داود عليهما السلام في قضية الغنم، حيث إن الله تعالى صوب حكم سليمان بمراعاته لهذه القاعدة.
الحالة الثانية: أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أجود من الذي اغتصبه، مثال ذلك: لو أخذ أرزاً وخلطه بأرز أجود وأفضل من الأرز الذي أخذه، كأن يكون -مثلاً- الأرز الذي أخذه الكيلو منه بخمسة ريالات، والأرز الذي خلطه به من نفس النوع ولكن قيمة عشرة ريالات، فحينئذٍ يكون الخلط بما هو أجود وبما هو أغلى ثمناً، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: إذا خلط الأرز أو الدقيق أو التمر ونحو ذلك بما هو أجود منه، ننتقل إلى المثل؛ لأنه لا يمكن فصله، فحينئذٍ نقول له: انتقل إلى مثله.
ونترك الاثنين للغاصب، أي: العين المغصوبة -الذي هو الصاع المغصوب- مع ما هو أجود منه، يترك للغاصب، ونقول للغاصب: ابحث عن مثل ما اغتصبته، وهو صاع يعادل الصاع الذي أخذته في الصفة والقيمة.
وقال بعض العلماء: يلزم الغاصب بدفع صاع من المخلوط الذي فيه الجيد الذي له، فإن أبى فرض عليه ذلك -هذا إذا رضي المغصوب منه- ونلزمه بأخذ صاع من هذا المخلوط حتى ولو كان أجود.
وحينئذ يرد
السؤال
كيف نلزم الغاصب بدفع شيء من حقه، مع أنه أجود؟ قالوا: ألزمناه بدفع الصاع من هذا المخلوط؛ لأن عين المغصوب موجودة فيه، فإذا ألزمناه بدفع صاع كان بعض العين مضموناً، فيبقى الزائد بقدر الصاع مما يؤخذ من المخلوط وهو ملك لصاحبه؛ لأنه هو الذي تسبب في الخلط، فتصبح زيادة يستحقها صاحب المال؛ لأنها من تصرفات الغاصب التي فيها العمد والعدوان، بمعنى: كأن الغاصب هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي يتحمل مسئولية جنايته، فلم يأمره أحد بالخلط، ويده يد عادية؛ لأنها دخلت على مال الغير، ورضي بإتلاف ماله بإدخاله مع مال الغير، فيتحمل مسئولية الضرر في النقص الحاصل على مالك، ونقول حينئذ: يلزمك أن تدفع الصاع، ويُلزم المغصوب منه.
قالوا: لو قال المغصوب منه: لا أريد، وأريد صاعاً مثل صاعي من غير المخلوط، فهل يطاع ويلزم بضمان المثلي؟ قولان للعلماء، والصحيح: أنه لا يطاع بل يلزم بأخذ الصاع مما اغتصب منه، أي: من المخلوط.
السؤال الذي يرد: لماذا ألزمناه؟ لأنه تبقى العين، وتبقى اليد في القدر الذي سيكون في داخل الصاع، هذا وجه.
والوجه الثاني: وجود الجيد والأفضل إنما هو حقه وزيادة، وكونه يقول: لا آخذ.
ليس له موجب شرعي، وإذا قال: لا آخذ، فهذا نوع من التفريط، فلو قال: أريد مِثلاً من خارج، صار فيه ضرر على المالك؛ لأنه في هذه الحالة يذهب ويتكلف شراء الصاع من خارج، وحقه مضمون والجيد فيه المثل وزيادة، فليس هناك من مظلمة حتى يقول: أريد الغير.
فيجب حينئذ إعطاؤه صاعاً من المخلوط الذي هو أجود.
إذاً: في حالة الاستواء وفي حالة الأجود يطالب الغاصب بدفع قدر مال المغصوب، سواء رضي المغصوب منه أو لم يرض، لكن لو خلطه بما هو أردأ.
فقال بعض العلماء: يضمن له مثل ما أخذ، ولا يعطي من الخلط؛ لأنه في هذه الحالة كأنه أتلف، وكأنه استهلك العين.
وقال بعض العلماء: يطالب بأخذ الموجود، ويضمن له قدر النقص من المال نفسه أو من مثله، وهذا هو الأقوى والصحيح.
ففي الثلاث صور حكمنا بالضمان من نفس المال، وهذا راجع للقاعدة التي ذكرناها، فالأصل بقاء اليد حتى يدل الدليل على رفعها وتحويلها إلى المثل أو القيمة.
والدليل على أننا نلزم المغصوب منه بالأخذ من عين ماله سواء كان في حالة الجودة أو الرداءة أو حال المثلية: قضية داود وسليمان وهي: رجل كان عنده غنم.
وجاءت الغنم في الليل ورعت فأفسدت زرع رجل آخر، فاختصما إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع تعادل قيمة الغنم، يعني: لو فرض أن الزرع قيمته مائة فالغنم قيمتها مائة، فحكم عليه السلام بأن صاحب الأرض يملك الغنم، وأثبت هذا الحكم من جهة أن صاحب الغنم مالك لها، متحمل لمسئوليتها ولكل ما ينشأ من الضرر منها، فألزمه بضمان حق صاحبه، فحكم بالغنم لصاحب الزرع، فلما خرج من عند داوود، قال سليمان: لو كان الأمر إليَّ لقضيت في هذا بغيره، قيل: وما تقضي؟ قال: أقضي بأن صاحب الغنم يأخذ الأرض فيعيد زراعتها ويردها كما كانت، وأحكم لصاحب الزرع أن يأخذ الغنم، فيحتلبها وينتفع من صوفها حتى يرد له صاحب الغنم أرضه كما كانت، فيرجع صاحب الزرع إلى زرعه وترجع الغنم إلى صاحبها.
فأثنى الله على حكم سليمان، والسبب في هذا: أن داود عليه السلام حكم بأن الغنم تصبح مستحقة لصاحب الأرض، فأخرج ملكية الغنم، ونزع يد صاحب الغنم عن الغنم، مع أن الغنم ملك له في الأصل.
فصوب الله حكم سليمان وجعله أصوب، وقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩]، وهذا يدل على أن العلماء إذا اختلفوا وكل منهم اجتهد بدليل شرعي، فإن الكل مفهم من الله وكل لا يلام، وكل لا يثرب عليه، ولا يقبح الخلاف ولا يشنع ولا ينتقص من مكانتهم، بل يزيدهم فضلاً إلى فضلهم ونبلاً إلى نبلهم؛ لأنهم بذلوا ما في وسعهم.
فحينئذ لما حكم الله سبحانه وتعالى بأن الغنم تبقى لصاحبها، والأرض تبقى لصاحبها أبقى اليد كما هي، وهذا هو الذي نريده: إبقاء الأصل على ما هو عليه، فأنت إذا نظرت إلى مسألة الغصوبات، فالأصل أن هذه العين المغصوبة تبقى ملكاً لصاحبها، ولا يحكم بانتقالها إلى الغاصب إلا بدليل، وحينئذ نقول: متى ما أمكن رد الزيت، أو الحبوب، أو الثمار التي خلطت بغيرها -مع أنه أجود أو أردأ- فإننا نقول بالرد، ونوجب على من فعل ذلك ضمان النقص إن وجد، ونلزمه بالدفع إن امتنع في الأجود والأحسن؛ لأنه هو الذي فرط وهو الذي ضيع ماله.
هذا إذا كان الخلط للمغصوب من جنسه، وهو الذي يمكن أن تخرج قدر المغصوب منه، فمن غصب صاعاً أخرجت منه صاعاً، ومن غصب صاعاً وخلطه بصاع من بر، فيمكن أن تخرج من الاثنين صاعاً واحداً، ولكن الإشكال إذا حصل الخلط لطعام لا يمكن الفصل فيه، فمن أخذ السمن واستهلكه في الطعام أو أخذ الدهن وخلطه في السويق فلا يمكن أن ترد السمن إلى حاله، ولا يمكن أن ترد السويق إلى حاله، فحينئذ يحكم بإلزامه ضمان مثل العين التي أتلفها.
الخلاصة: أنه إما أن يخلط على وجه يمكن التمييز والحكم فحينئذ يُطالَب الغاصب بالتمييز، وعليه مؤونة التمييز إن كان في ذلك كلفة ومشقة.
الحالة الثانية: أن يخلطه فلا يمكن تمييزه، فإما أن يخلطه بشيء من جنسه كزيت بزيت، وبر بر، وتمر بتمر.
فنقول له حينئذ: إن كان أجود أو كان مثلياً لزمك أن تدفع مثله.
ويكون النقص على الغاص