[مسألة: إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق]
قال رحمه الله: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق طلقت المنوية، وإلا من قرعت].
وهنا حالتان: الحالة الأولى: أن يميز من هي التي طلقها ويعينها في قرارة نفسه.
والحالة الثانية: ألا يميز، بأن يقول: إحداكما، ويرسلها هكذا فإذا قال: إحداكما طالق ونوى واحدة منهما، فمثلاً: كان بين امرأتيه وأراد أن يخوف الثانية حتى تتأدب بطلاق الأولى فقال لهما حينما تمالأتا عليه وعلم أن إحداهما هي شر وهي البلاء فقال: إحداكما طالق، فأراد أن تخاف الثانية وأن توقع على نفسها احتمال أنها مطلقة فترتدع وتدخلها الرهبة، وهو قاصدٌ في قرارة قلبه أن المطلقة خديجة، وأن الثانية وهي عائشة ليست بمطلقة، فحينئذٍ إذا عين وقال: قصدت عائشة أو قصدت خديجة عُمِل بالتعيين إجماعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، وفي التردد يرجع إلى النية، وهذا أصل في الشريعة.
ولذلك إذا قال أحدٌ كلاماً محتملاً فلا يجوز أن يجزم بأحد الاحتمالين حتى يعين ويقول: قصدت كذا أو أردت كذا، أما إذا لم يعين ولم يبين فإننا لا نجزم؛ لأن كلامه محتمل، والله عز وجل لم يجعل المحتمل كالصريح، ولم يجعل الواضح البين كالمبهم، فكل شيءٍ قد جعل له ربك قدراً، فلا يجوز أن يرفع عن قدره ولا أن يوضع عن حقه.
فعلى كل حال إذا قال: إحداكما طالق، وعين إحدى المرأتين؛ وجب الحكم بطلاق المعينة التي عينها.
فيقال له: من قصدت بالطلاق؟ فإن قال: خديجة أو عائشة حُكِم بطلاقها، فاللفظ متردد ورُجِع في تعيينه وزوال إبهامه، وتردده إلى المتلفظ وهو الزوج.
الحالة الثانية: ألا يكون هناك تعيين، ولها صور: منها أن يقول: إحداكما طالق ويموت.
ومنها أن يقول: إحداكما طالق ولم يتمكن من مراجعة ومعرفة ماذا قصد حتى نسي، ولم يدر أهي فلانة أو فلانة، فجهل التعيين.
فإذا جهل التعيين فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أننا تحققنا من وقوع الطلاق ولكن لا ندري أيتهما التي تطلق، فحينئذٍ يصار إلى القرعة، والقرعة أصلٌ شرعي في إثبات التعيين، فإذا قصد واحدةً ونسيها فإنه يعين بالقرعة، وقال بعض العلماء: لا تطلق لا هذه ولا تلك حتى يستيقن من التي عينها بالطلاق.
فقوله: [وإلا من قرعت].
أي: التي خرجت عليها القرعة كما ذكرنا، قالوا: لأن القرعة دليلٌ شرعي تثبت به الأحكام، دل على ثبوته الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء عملوا بالقرعة، ولذلك قال عن نبيه يونس: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:١٤١]، وخرجت عليه القرعة فرمي في البحر.
وكذلك: سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عمل بالقرعة.
وكذلك: كان نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه يعمل بالقرعة كما في الصحيح: (أنه كان إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه صلوات الله وسلامه عليه، فمن خرجت عليها القرعة منهن سافر بها)، فهذا يدل على العمل بالقرعة، ولذلك عمل بها الصحابة رضوان الله عليهم وعمل بها أئمة السلف رحمهم الله أجمعين، وكذلك الخلف من بعدهم.
فدل هذا على ثبوتها حجة، ولذلك يقولون: تثبت حجةً شرعاً وقدراً، فالحكم بها شرعي، وأما القدري فإن الله يقدر لعباده فإن خرجت القرعة على واحد، فإنه يكون هو المعين لما قصد من هذه القرعة في طلاقٍ وغيره.
إذاً: إذا قال: إحداكما طالق.
تحققنا أن إحدى الزوجتين طالق، فإن قلنا له: عيَّن، فقال: لا أتذكر ونسيت، حكم بالقرعة، أما لو قلنا له: هل تعلمها، فقال: نعم أعلمها؛ فإنه حينئذٍ يجبر على التعيين، فإذا امتنع من التعيين امتنعت كلتا الزوجتين من تمكينه من نفسها، فإذا بلغ أمره إلى القاضي أجبره على التعيين، وقال بعض العلماء: يعزر ويسجن حتى يحدد من هي الزوجة التي قصدها بهذا اللفظ، ولا يتساهل معه في هذا؛ لأن الطلاق تترتب عليه حقوق، ولأنه لو مات حصل الإشكال، حتى لو وجدت القرعة ربما خرجت على غير المطلقة، ولذلك يلزمه شرعاً التعيين، ومن مهمات القاضي إرجاع الحقوق إلى أهلها، فالطلاق له حقوق وتبعات، خاصةً مع وجود المرأة الثانية التي لم يقع عليها الطلاق، فهو بهذه الطريقة يعلم المرأة التي لم تطلق وحينئذٍ يجب عليه أن يعين.
فإذا قال: نسيت؛ فحينئذٍ يحكم القاضي بالقرعة، فمن خرجت القرعة عليها فقد اختارها الله قدراً فينفذ الطلاق ويتعلق بها.
قال رحمه الله: [كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها].
أي: إذا قال: إحداكما طالقٌ ثلاثاً وكانت الزوجتان معقوداً عليهما لم يدخل بهما، فالطلقة الأولى طلقة بائنة.