للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[دعوة المظلوم]

السؤال

دعوة المظلوم مستجابة، فهل هذا إذا كانت على مَن ظَلَمَه، أم أنها مستجابة حتى لو دعا لنفسه في وقت كونه مظلوماً؟

الجواب

دعوة المظلوم مستجابة، النص فيها صحيح صريح.

ولذلك روى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول: وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين)، فدعوة المظلوم مستجابة إذا كانت على مَن ظلمه.

وينبغي أن يكون دعاؤه في حدود مظلمته.

ويشمل دعاء المظلوم على عدة أوجه: الوجه الأول: أن يسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكفيه شر الظالم وأذيته، وهذه دعوة السلامة.

فيقول: اللهم إني أدرأ بك في نحر فلان، وأعوذ بك من شره، أو يقول: اللهم اكفني شر فلان بما شئت، اللهم إن عبدك فلان قد ظلمني وأساء إلي أو انتهك عرضي أو أخذ مالي، اللهم اكفني ظلمه بما شئت، اللهم اقطع عني أذيته، واكفني شر بليته، ونحو ذلك من دعاء السلامة.

فهذا الدعاء إذا دعاه الإنسان لا يُذهب أجره، وليس فيه اعتداء على الظالم، وليس فيه نقصان لأجره؛ لأنه يكتب له أجر الأذية التي حصلت فيما مضى؛ لأنه لم يدعُ على مَن ظَلَمَه، وإنما سأل الله أن ينجيه من هذا البلاء.

أما النوع الثاني من دعاء المظلوم: فهو دعاء السلامة مع الدعاء على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده أو غير ذلك، فإذا دعا على الظالم فأيضاً يُفَصَّل فيه: فتارةً يدعو على الظالم دعوةً يسأل ربه فيها ألَّا يسلطه على غيره، فيقول: اللهم إن عبدك قد ظلمني، أسألك اللهم أن تحول بينه وبين عبادك المسلمين فلا يظلمهم، أو أسألك اللهم أن تقطع دابر أذيته عن المسلمين، أو نحو ذلك من الدعاء الذي يُقصد به كف شر الظالم عنه وعن المسلمين.

فهذا عند بعض العلماء لاحق بالأول، ويقرنون حكمه بدعاء السلامة من هذا الوجه.

لكن إذا دعا على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده فلا يخلو من حالتين: فيقول مثلاً: اللهم إن فلاناً ظلمني فافعل به كذا وكذا، أو خذ منه كذا وكذا، أو أنزل به كذا وكذا، ففيه تفصيل: إما أن يدعو في حدود مظلمته، فهذا قد أخذ حقه بسؤال ربه على قدر مظلمته.

وإما أن يدعو أكثر من حقه، فمثلاً: لو جاء إنسان وظلمه وأخذ منه القلم، فقال: اللهم إني أسألك أن تعمي بصره، فأخذ البصر ليس كأخذ القلم، فليست هناك موافقة.

وأما حينما يدعو عليه أو على ولده أو أهله، فهذا النوع من الدعاء يعتبره العلماء اعتداءً.

قالوا: وفي حكم هذا الدعاء على ولاة الأمر والعلماء؛ لأن الضرر إذا نزل بهم يتعدى إلى المسلمين، ويكون ضررهم عاماً، فلو دعا على عالم، فإنه ربما ضر بإخوانه المسلمين وانقطع نفعه عن المسلمين، فهذا من الاعتداء.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطهور).

فدل هذا على أنه ممنوع منه، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يؤمَن عليه من القصاص، وأخذ حقه منه.

وفي حكم هذا: أن يدعو على ولده، ويقول: اللهم نكِّد عليه عيشه في أهله وولده وكذا وكذا، فهذا يرونه من الاعتداء.

لكن بعض العلماء يقول: من حقه أن يدعو دعوةً قاصمةً لظهر الظالم إذا كانت هناك مظلمة يتعدى ضررها من الشخص بالتشهير به أو انتهاك عرضه.

ومن أمثلة ذلك: فعل السلف الصالح رحمهم الله، فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كذب عليه أهل الكوفة وآذَوه، وهذه هي سنة الله في الأخيار والصالحين، أنهم يُتَّهمون ويُقْذَفون ويُنْتَقصون حتى يبرئهم الله -جلَّ جلالُه- من فوق سبع سماوات.

فـ سعد رضي الله عنه صحابي جليل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدته ورخائه، وكان سدسَ الإسلام يوم أسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارمِ، فداك أبي وأمي) من عظيم ما كان من شأنه في الإسلام، فهو أول من رمى في سبيل الله، وأول من جمع له النبي صلى الله عليه وسلم بين والديه.

هذا الصحابي الجليل كذبوا عليه، حتى جاءوا إلى عمر وقالوا له: (إنه لا يحسن كيف يصلي).

انظروا -يا إخوان- وفي هذا العبرة لكل داعية وصالح وتقي! أنه إذا جاء الكلام فيه من ورائه فإنه يُطْعَن في كل شيء، حتى في دينه في عقيدته، في منهجه، في فكره؛ لأن هناك أناس ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالناس، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠]! رجل من أهل الكوفة يأتي إلى عمر ويقول له: هذا الرجل الذي وضعتَه لنا لا يعرف كيف يصلي.

فقام عمر رضي الله عنه وأمر باستدعاء سعد إليه، وقطع هذه المسافة الشاسعة من الكوفة إلى المدينة من أجل ذلك، تصوروا كيف يطوي تلك المسافات الشاسعات وتمضي عليه ساعات الليل والنهار وهو في هم الظلم، حتى جاء إلى المدينة.

فقام وفد الكوفة الظالم الجائر فقال قائلهم: (أما وقد سألتنا عن سعد، فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يحسن كيف يصلي بنا).

الله أكبر! هذا الصحابي الجليل يصل إلى هذا القدر! فقال سعد رضي الله عنه: (والله ما كنتُ آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطوِّل في الأوليين، وأخفف في الأخريين، اللهم إن كنتُ تعلم أن عبدك هذا قد كذب وفجر فيما قال، اللهم أطل عمره، وخُذ بصره، وعرِّضه للفتن)، ثلاث دعوات.

فاستجيبت دعوته رضي الله عنه.

فعُمِّر الرجل فوق مائة سنة، وكف بصره والعياذ بالله، وأصبح يتغزل النساء في آخر عمره والعياذ بالله، فتقول له المرأة: (اتقِ الله وأنت كبيرُ سِن).

فيقول: (أصابتني دعوة الرجل الصالح).

واشتكت امرأة إلى عمر وتكذب على سعيد بن زيد رضي الله عنه حيث ادعت أنه ظلمها في بئرها.

فقال سعيد: (اللهم إن كنت تعلم أنها كاذبة اللهم اجعل قبرها في بئرها).

فعمي بصرُها -والعياذ بالله- فسقطت يوماً من الأيام في البئر فماتت، فكان البئر قبراً لها.

فهذه كلها نقم من الله سبحانه وتعالى.

وفي بعض الأحيان يُسَلَّط على من يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى من حيث لا يحتسب، خاصةً إذا لم يدعُ المظلوم، فإنه إذا لم يدعُ تولى الله سبحانه وتعالى أمره.

حتى ذكروا عن بني إسرائيل من قصصهم المعتبرة: أن رجلاً ظَلَم امرأة، فابتُلي -نسأل الله السلامة والعافية- ببلية لم يُدْرَ لها علاج.

فاشتكوا إلى حبر من أحبار اليهود، فقال لهم: ما شأنه؟ قالوا: ظلم فلانة.

قال: اذهبوا إلى فلانة، واسألوها أن تسامحه.

فامتنعت أن تسامحه.

وكان قد ظلمها مظلمةً عظيمة.

فقال لهم: اذهبوا إليها، وأكثروا من ذكر سيئاته التي كان يفعلها بها حتى يثور غضبُها وتتكلم.

فصاروا يذكرون أذيَّته لها حتى دعت عليه، فذهبت البلية التي كانت على الرجل ونزلت به الدعوة التي دعت عليه بها، فخف البلاء أكثر من الأول.

فقالوا له: كيف علمتَ ذلك؟ قال: لأنها سكتت، فتولى الله جلَّ جلالُه نصرتها، فلما أصابها الغيظ وانتصرت لنفسها، زال البلاء، وأصبحت مستشفيةً لغيظها.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا ويتجاوز، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم على نبيه محمد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>