للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صلح القاضي بين المتخاصمين يشرع في بعض القضايا]

السؤال

هل يبدأ القاضي بإمضاء حق الخصم المظلوم، أم يحاول الصلح بينهما، فإذا امتنع صاحب الحق أمضى الحكم؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فإن الصلح من القاضي يقع في بعض القضايا وليس في كل القضايا.

وينبغي أن ينتبه لقضية مهمة جداً، وهي: أن مقام القاضي يستلزم منه أن يكون حيادياً لا يميل لأحد الطرفين، وهذه الحيادية تقتضي منه أن لا يتدخل، فيعطف على أحد الخصمين على حساب الآخر؛ ولذلك فلا يجوز له أن يدخل خصماً قبل خصمه، ولا يجوز له أن يلين قوله لأحد الخصمين دون الآخر، ولا أن يخص أحدهما بالنظر الشديد دون الآخر دون موجب، ولا يرفع مجلس أحدهما على الآخر، ونحو ذلك مما ذكره العلماء، كل هذا إقامة للعدل، ولذلك جعل الله عز وجل القضاة من أجل أن يقوموا بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وعلّم الله نبياً من أنبيائه أن يعدل بين الخصمين، فقال لداود حينما أتاه الخصمان: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦]، فأمره أن يحكم بالحق وبالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإذا تدخل القاضي بالصلح فقد عطل صاحب الحق عن حقه، وصاحب الحق ما أتى يشتكي إلى القاضي إلا وقد تمعر وتألم وضاقت به الدنيا، فإذا وجد القاضي يقول له: سامحه واعف عنه، فحينئذ ييئس الناس من القضاة؛ لأن القضاة -غالباً- لا يوصل إليهم إلا إذا استنفدت وسائل الصلح، فإذا تدخل القاضي كان هناك ميل لأحد الخصمين على حساب الآخر.

وقد استثنى العلماء رحمهم الله مسائل يجوز للقاضي أن يتدخل بها في الصلح، وسيأتينا -إن شاء الله- تفصيلها في باب القضاء.

منها: إذا أشكل عليه الحكم، كقضية متشعبة متشتتة وأقوالها متباينة، وصعب عليه الأمر واستشكل، فمن حقه -آنذاك- أن يصلح بين الطرفين؛ لأنه لا يستطيع الفصل، ولم يتبين له الحق، أما إذا تبين له الحق فلا يجوز له التدخل بالصلح؛ لأنه مأمور {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:٤٩]، وعليه إذا تبين له الحق أن يحكم ويمضي الحق وينفذه.

ومنها: خوف الفتنة، كأن يعلم أنه لو قضى لأحد الخصمين -وهو صاحب حق- أنه فستقع فتنة، وستسيل دماء، كما لو اختصموا عند القاضي وأحدهم شرير، وله أعوان، ويغلب على ظن القاضي أنه لو قضى له بهذا الشبر من الأرض أو المتر من الأرض فستثور العصبية والحمية، فيقتلون الرجل صاحب الحق، ولذلك ففي هذه الحالة يتدخل بالصلح ولا ينفذ الحكم.

فهذه المسائل استثناها العلماء، قال الناظم رحمه الله: والصلح يستدعى له إن أشكلا حكمٌ وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فإذا أشكل عليه الحكم فمن حقه أن يصلح، ولا يتكلف الحكم عن جهل؛ فإنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، فإذا أشكل عليه الحكم فيقول: إن قضيتكم مشكلة ومسألتكم مستعصية، فإن شئتم أن تترافعوا إلى غيري فافعلوا، ويقول لهم: اذهبوا إلى من هو أعلم مني، اذهبوا إلى فلان أو فلان -يرشح لهم أحداً أعلى- لكن إذا قالوا: لا نريد حكماً بيننا غيرك، ولا نرضى إلا بحكمك، فحينئذٍ يقول: لقد أشكل عليّ الأمر؛ فلا تحملوني ما لا أطيق، فلا أرى أن أحدكما ظلم الآخر، أو أرى أن كلاً منكما له حق، فإن أبيتم فأرى أن تصطلحوا، ويحق له أن يتصرف هذا التصرف، وكذلك أيضاً إن خاف فتنة أو شحناء للأرحام.

ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح بين الأنصار واليهود في مسألة حويصة ومحيصة حينما قتل عبد الله رضي الله عنه في الرسالة وقد تقدمت معنا في القسامة، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل من بيت مال المسلمين درءاً للفتنة؛ لأن اليهود كان لهم حق وعهد وذمة، ذمةُ الله ورسوله، والأنصار قتل لهم قتيل، والمقتول بين اليهود، وقد وجدوه يتشحط في دمه، فعرض على اليهود القسامة فامتنعوا، وامتنع الأنصار أن يقبلوا أيمان اليهود، مع أن اليهود امتنعوا، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يحلفوا على رجل منهم فلم يفعلوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين صلحاً.

وقول الناظم: (ما لم يخف فتنة أو شحناء للأرحام) فإن الأرحام إذا وقعت بينهم الشحناء فهذه مصيبة عظيمة وبلاؤها أعظم.

وعليه: فلا لا يجوز أن يتدخل القاضي بالصلح في غير ما تقدم؛ لأنه لو كل من كانت له خصومة وجاء إلى القاضي فيقول له القاضي: أريد أن أصلح بينكم؛ فإن هذا يُذهب هيبة القضاء، ويذهب مكانة القضاة، فالناس ما جاءوا إلى القضاء من أجل الصلح، وإنما جاءوا للفصل في المنازعات وبيان من هو صاحب الحق فيُؤدى له حقه، ومن هو الظالم فيردع عن ظلمه، هذه هي مهمة وأمانة القاضي، فلا يتدخل في مسألة الصلح إلا في مسائل معينة محدودة على ما قرره الأئمة رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>