[اشتراط ملكية النصاب وقت وجوب الزكاة]
قال رحمه الله: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة].
هذا أمرٌ لا بد منه للحكم بلزوم الزكاة عليه، ووقت الوجوب هو وقت بدو الصلاح.
وتوضيح ذلك: أن نقدم بمقدمة يتصور الإنسان بها حقيقة بعض الثمار والزروع.
النخل -مثلاً- يمر بمراحل، فمن حكمة الله عز وجل أن النخل أول ما يكون منه في ثماره الطلع، والطلع: كيزان تحمل ثمرة النخلة، هذا الطلع يكون أول ما يبدو في زمان معين من السنة، يخرج ذلك الكيس الخشبي الذي بداخله الثمرة المخلوقة بقدرة الله عز وجل، مرتبة منظمة حتى أنك لو فتشت هذا الكيس تعجب من بديع صنع الله عز وجل في ترتيبها ودقتها وتناسقها، فإذا كنت تعجب من كيس واحد، فكيف بهذه البساتين التي تحمل البلايين بل بلايين من هذه الأكيسة بنظام بديع غريب يدل على عظمة الله جل جلاله؟! فإذا خرج هذا الطلع يكون تقريباً في الغالب في حجم الذراع، على هذه الصورة، يخرج شيئاً فشيئاً في جذع النخلة، من أعلاها بين الجريد الذي لم ييبس، وهو قلب النخلة كما يسميه العامة، وفي ذلك حكمة، فلو خرج في جذع النخلة من أسفل لانكسر؛ لأنه لا يجد ما يحمله، وإنما يكون في قلبها في أعلاه حتى يكون على الجريد، ويحمله الجريد بقدرة الله عز وجل، فإذا عبثت به الرياح أو ثقل وزنه مع الزمان لم ينكسر، وهذه من حكمة الله جل جلاله، فإذا خرج هذا الكيس يتشقق وذلك في زمان مناسب حتى أنك في زمان البرد تجد أسابيع معينة يكون فيها شيء من سكون الهواء وحرارة الجو حتى تخرج هذه الكيزان، مع أنك في فصل من الفصول الباردة، فإذا خرجت هذه الكيسان تشققت، فبداخلها الثمرة، يأتي الفلاح ويأخذ طرفي الكيس الخشبي ويقطعهما وتخرج الثمرة التي هي العرجون بشماريخه، فهذا العرجون بشماريخه تجد فيه حبات التمر، الواحدة تلو الأخرى منظمة مرتبة على أحسن ما أنت راءٍ من تنظيم وترتيب، وتبارك الله أحسن الخالقين، فيأتي الفلاح ويأخذ من الذكور؛ لأن النخل فيه الذكر وفيه الأنثى، فالذكور تطلع كيزان مثل كيزان الإناث، ولكن فيها اللقاح، وهذا اللقاح يؤخذ ثم يغبَّر به تلك الثمرة الخارجة في الكيس الذي ذكرناه، فيلقح الفلاح، فتأتي مرحلة ثانية وهي التي تسمى بالتأبير، وفيها أحاديث ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ كحديث عبد الله بن عمر: (من باع نخلاً قد أُبِّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فهذه مرحلة التأبير، وتترتب عليها أحكام شرعية، ومرحلة التأبير هي التي ورد فيها حديث المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على أهل المدينة وجدهم يؤبِّرون النخل، فأمرهم أن يتوكلوا على الله، فتركوا الثمرة ولم يؤبروها ففسدت، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فهذه مرحلة التأبير.
بعد التأبير تكون هناك فوق الشهرين مرحلة تسمى مرحلة العقد، مثل أيامنا هذه، فتبدأ الحبة تكبر؛ لأنها في بدايتها تكون قريبة من حبة الذرة، فهذه الثمرة التي تأكلها في نهاية العام والتي قد تبلغ في حجمها الإصبع الكامل، تكون بعد التأبير بقدر أصغر من حبة الذرة، فهذه الحبة الصغيرة تكبر شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان بما يزيد على الشهرين، حتى يكتمل حجمها المعتاد وهي خضراء، فإذا اكتمل حجمها المعتاد، ضربها اللون بقدرة الله عز وجل، فاصفرّت أو احمرّت على حسب ما جعلها الله عز وجل من ذلك النوع، هل هو أحمر أو أصفر، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل:١٣]؛ لأن اختلاف الألوان يدل على وجود الخالق، لأنه لو كانت الأمور طبيعية كما يقول أهل الطبيعة: أن الحياة وجدت صدفة، لكان كله أحمر أو كله أصفر، ولكن هذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا أصفر، يدل على وجود من غيّر هذه الألوان، وهو سبحانه {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤].
وهذه المرحلة -مرحلة اللون- تسمى في الشرع بالإزهاء، وهي التي ورد فيها حديث أنس في الصحيحين: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو، قالوا: يا رسول الله! وما تزهو؟ قال: تحمارُّ أو تصفار) وهي مرحلة الإشقاح، ومرحلة بدو الصلاح، كما ورد في الأحاديث: (نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تشقح) فهي مرحلة اللون، ويكون اللون أحمر أو أصفر.
بقي إشكال وهو: إذا كانت الثمرة لونها أخضر مثل النوع الذي يسمى بالخضري، يبقى أخضر، كيف يعرف صلاحه؟ قالوا: بالطعم؛ فإنه إذا جاء وقت بدو صلاحه صار حلو الطعم بعد أن كان مر الطعم، وهذا هو الذي عناه حديث ابن عباس في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى تؤكل أو يؤكل منها) فردّ إلى الطعم، فهذه مرحلة بدو الصلاح، ولها ضوابط عند العلماء رحمة الله عليهم، فتكون باللون، وتكون بالزمان وهو طلوع الثريا، وفيه حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره وابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يطلُع النجم، وتؤمن العاهة) وهو الثريا كما فسّره ابن عمر، وهذا التفسير أشار إليه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير، وقال: إنه طلوع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة خلت من مايو أيار.
الشاهد: هذه المرحلة تسمى مرحلة بدو الصلاح، وهي المرحلة التي يحكم فيها بوجوب الزكاة، فلو أن الإنسان في هذه المرحلة كان غير مالك للثمرة، فإنه لا تجب عليه الزكاة، وينظر في تقدير فائدة هذا الحكم الذي ذكره المصنف رحمة الله عليه ما يترتب عليه من الحكم بإيجاب الزكاة.
بعد هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح تأتي مرحلة البُسر والبلح، فإذا ضربه اللون صار بُسَراً كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما جاء إلى الصحابي وجز له عرجون نخل، قال: هلا أتيتنا من ثمره! قال: إنما أردت أن تتخير من بُسره ورُطَبه وتمره).
فهذه مرحلة البُسر، يؤكل بعض الثمر الذي يكون من النخل، بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستسيغه إلا بلحاً، وبعضه يؤكل رطباً.
وبعد أن يصير بلحاً تمر عليه فترة الشهر والنصف وزيادة؛ يبدأ يذبل آخر الثمرة، ثم يذبل قليلاً قليلاً؛ ربع الثمرة ثم نصفها ثم ثلاثة أرباعها حتى يكتمل ترطيبها، فهذه المرحلة تسمى بمرحلة الرُّطَب، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التمر، ويسميها العلماء بمرحلة الصرام؛ لأنه يصير كالصريم وعندها يستوي كمال الاستواء.
هذه مراحل ثمرة النخل والذي يهمنا منها مرحلة بدو الصلاح، فلو أن هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح كان النخل في ملك غيرك، ثم صار إلى ملكك بإرث ونحوه لم تجب عليك الزكاة، وإنما وجبت في ملك الغير.
أوضح هذه المسائل: لو أن رجلاً كان له بستان فيه نخل، فلما بدا الصلاح توفي الرجل، وترك ابنين، الابنان يقسم البستان بينهما مناصفة، لهذا نصفه ولهذا نصفه، فلو فرضنا أن هذا البستان فيه ثلاثمائة صاع التي هي النصاب، فإذا قلنا: إن البستان في ملك الميت وجبت الزكاة؛ لأن النصاب كامل، وإذا جئنا ننظر إلى ملكية الابنين فقد ملك كل منهما مائة وخمسين صاعاً دون النصاب، فحينئذٍ يقولون: العبرة بوقت بدو الصلاح، إن جاء وقت بدو الصلاح والرجل لم يمت، فحينئذٍ الزكاة واجبة عليه، وتخرج من ماله وتركته قبل قسمة البستان، وإن جاء وقت بدو الصلاح كأن يكون أبّر النخل ثم توفِّي قبل بدو صلاحه، فحينئذٍ البستان في ملك الابنين، ولا تجب فيه زكاة؛ لأنه قد جاء وقت الوجوب ولم يملك كل منهما النصاب، هذه فائدة وقت بدو الصلاح.
بالنسبة للحبوب والزروع الأخرى، ما هي علامة بدو الصلاح؟ لبدو صلاح الحب علامات: منها الاشتداد كالحب، فالحب علامة بدو الصلاح فيه أن يشتد، وفي حديث مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد) وذلك: أن الحب أول ما يكون في خلقه يكون ليناً، وتكون خلقته لينة حتى إنك لو ضغطت بإصبعك على الحبة لخرج ماؤها، ثم تبدأ تشتد شيئاً فشيئاً حتى يكتمل اشتدادها، فإذا اشتدت واكتمل اشتدادها فتلك مرحلة بدو الصلاح، فمن باع النخلة قبل الإزهاء الذي هو اللون، أو باع الحب قبل أن يشتد فبيعه باطل ولا يجوز، فهذا الوقت وهو وقت اشتداد الحب، ولون ثمرة النخيل هو الحد الذي يفصل فيه لجواز البيع وعدمه، وهو الحد الذي يفصل فيه في ملكية الثمرة ووجوب الزكاة وعدم وجوبها.
يقول العلماء: هناك علامات كثيرة لبدو الصلاح: أولها: اللون كما في النخل يحمار ويصفار.
ثانياً: أن يكون شديداً بعد لينه، كالبر والشعير فيشتد بعد اللين.
العلامة الثالثة: أن يلين بعد الشدة كالتين، فإن التين يكون شديداً أول ما يكون فإذا بدأ يلين بدا صلاحه، فهو عكس النوع الذي قبله، وألحق بعض العلماء بهذا النوع الثالث البطيخ عند بيعه، طبعاً ليس في البطيخ زكاة؛ لأنه ليس من جنس ما يكال، لكن في البيع يشترطون أن يلين؛ لأن البطيخ إذا بدا صلاحه لان، أما إذا كان شديداً فإنه لم يطب ولم يكن صالحاً لأكله.
العلامة الرابعة: أن يكتمل حجمه بعد صغره، أي: يبدأ يكبر حجمه حتى يكتمل كالطماطم والباذنجان ونحوها، هذه علامة صلاحها.
العلامة الخامسة: أن يكتمل طوله بعد قصره كالقثّاء والخيار ونحوها، فتحكم بجواز البيع إذا اكتمل حجمه.
والعلامة السادسة: أن يحلو بعد مرارته كقصب السكر، فإن علامة بدو الصلاح فيه أن يكون حلواً بعد أن كان مراً.
والعلامة السابعة: أن يتفتح من أكمامه فبعض الزروع يكون، بدو صلاحها عند بداية تفتحها كبذر القطن إذا ابتدأ تفتحه فهو علامة صلاحه، أو يكتمل التفتح كما في الورد إذا بيع بقصد الانتفاع به في مطعم ونحوه.
هذه علامات بدو الصلاح؛ يترتب عليها أحكام في الزكاة، وتترتب عليها أحكام في البيوع، كما سيأتينا إن شاء الله في بيع الأصول والثمار، ولا بد لطالب العلم أن يلم بمثل هذه الأمور.
ونحن ننبه إلى مسألة مهمة، وهي: أن من عادة فقهاء الإسلام رحمة الله عليهم والأ