[جواز النظر إلى المخطوبة]
قال رحمه الله: [وله نظر ما يظهر غالباً مراراً بلا خلوة] هذه هي الجملة الثالثة التي اشتمل عليها هذا الفصل، وهو النظر إلى المخطوبة، ومن دقة العلماء والفقهاء رحمهم الله، أنهم يرتبون المسائل والأحكام على حسب الوقوع، فمن عادة الناس أنهم يختارون أولاً، ثم بعد الاختيار يطلب النظر إلى المخطوبة، فشرع رحمه الله في بيان شرعية النظر إلى المخطوبة، وبيان محل النظر والقدر الذي يجوز للمسلم أن يراه من مخطوبته.
وفي هذه الجملة مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء رحمهم الله كما حكى غير واحد؛ منهم: الإمام ابن قدامة، وكذلك الإمام النووي، والحافظ ابن عبد البر رحمة الله على الجميع على مشروعية نظر الخاطب للمخطوبة من حيث الجملة، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أنظرت إليها؟ قال: لا.
قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)، وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح: (انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) ونحو ذلك من الأدلة الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإجماع منعقد على مشروعية النظر إلى المخطوبة.
المسألة الثانية: هذا النظر تترتب عليه مقاصد شرعية، ففيه جلب مصلحة ودرء مفسدة: أما المصلحة، فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) فهو يحقق الألفة والمحبة، وطمأنينة كل من الزوجين إلى الآخر.
وأما المفسدة، فإن الرجل إذا لم يكن على علم بصفات المرأة ربما كرهها إذا نظر إليها بعد الدخول بها، وحينئذٍ تقع المفاسد التي لا تحمد عواقبها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده النظر على هذا الوجه حتى تتحقق المقاصد الشرعية وتندرئ المفاسد المترتبة على دخول الرجل على زوجته من غير سبق نظر، ثم في هذا النظر حكمةٌ من جهة أن الله تعالى أعطى الزوج حق المعرفة لصفات زوجته، وكذلك الزوجة تنظر إلى زوجها حتى تكون على بينة من أمرها.
وكذلك أيضاً هناك مسألةٌ رابعة وهي: ما هي أحوال النظر؟ النظر له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون دون علم المرأة.
والحالة الثانية: أن يكون بعلم منها.
وفي كلتا الحالتين لا يجوز للمسلم أن يقدم على النظر إلا إذا غلب على ظنه -خاصةً في الحالة الأولى- أنه يُقبل، ومن هنا قال بعض العلماء: إنه إذا غلب على ظنه أنه لا يُقبل وأن المرأة لا ترضاه ووليها لا يقبله زوجاً لها، فإنه لا ينظر إليها؛ لأنه ليس ثَمَّ موجبٌ شرعي لاستثنائها من الأصل الذي يُحَرِّم عليه النظر إلى الأجنبية.
فأما النظر دون علم المرأة فهو أن يختبئ الرجل للمرأة ويراها في حال خروجها وحال مخالطتها في الخارج للناس حتى ينظر إلى حشمتها وحيائها وطريقة محافظتها على دينها، والمرأة العفيفة الصالحة لها سمات ولها أمارات وعلامات، والخير الذي غيبته القلوب يظهره الله في القوالب، فإن المرأة إذا كانت صالحة ظهر صلاحها في حشمتها وعفتها وبُعدها عن مخالطة الرجال حتى في طريقة مشيها، فإن هناك صفات تدل على الموصوف والشخص الذي أتى بها، فالبعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فإذا رآها خرَّاجة ولَّاجة، ورآها إذا مرت على الرجال لم تستحي ولم تحتشم ودخلت بينهم، أو رآها ترفع بصرها فتكثر التلفت يميناً وشمالاً، فمثل هذه الصفات ومثل هذه الأفعال توجب للمسلم أن يتوقف ويتريث عن التعجل في أمره.
وكذلك أيضاً هناك مصالح من النظر: فربما نظر في بعض صفاتها ما يحببه فيها ويرغِّبه فيها بعد وجود الصفات الشرعية التي سبقت الإشارة إليها، وهي التي تدل على عفة المرأة وصلاحها واستقامتها.
فأما النظر على هذا الوجه؛ وهو أن يختبئ لها، فقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في عموم قوله: (انظر إليها) وكان جابر رضي الله عنه -كما ثبتت الرواية عنه- يختبئ لها حتى رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها، وكذلك قال الإمام عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام المعروف رحمه الله برحمته الواسعة، قال: انظر إليها دون أن تعلم حتى لا تتزين، أمر بالنظر إلى المخطوبة دون علم منها حتى لا تتكلف الزينة ولا تتكلف في الطبائع والخلق، وأما النظر الخاص فهو أن يطلب من أوليائها على الوجه المعروف الذي فيه حشمة وفيه محافظة أن يمكن من النظر إلى الموضع الذي أحل الله النظر إليه من المرأة المخطوبة، فإذا رضي أولياء المرأة بالرجل، ورغب الرجل في النكاح، وعلم منه صدق الرغبة، دخلت المرأة بحضور وليها مع الزوج أو بحضور أمه، المهم أنها لا تختلي معه، فتدخل وتكون كاشفة عن وجهها وكفيها، وهذا هو القدر الذي يباح النظر إليه في أصح أقوال العلماء رحمهم الله، خلافاً لمن قال: يجوز له النظر إلى جميع المخطوبة عدا السوءتين كما هو قول الظاهرية، أو ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها كما يقول الحنفية رحمهم الله.
ووجه ذلك: أن اختيار الوجه والكفين مبني على أن الأصل عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة كلها، فلا يجوز النظر إلى أي شيء من المرأة، وهذا هو الأصل، ولذلك أمر الله الرجل أن يغض بصره عن أمة الله، وأن لا ينظر إليها: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:٣٠] فأمر الله بغض البصر وحفظه، وعدم النظر إلى المرأة الأجنبية، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النظرة المسمومة إلى المرأة التي لا تحل، ولوى عنق الفضل وقال: (رأيت شاباً ينظر إلى شابة) فلم يأمن عليهما الفتنة صلى الله عليه وسلم.
فالوجه والكفان اختارهما الإمام أحمد رحمه الله ومن وافقه من العلماء؛ لأن هذا القدر يحصل به المقصود وتتحقق به الحاجة، والقاعدة في الشريعة: أن ما جاز لعذر أو جاز لضرورة أو جاز لحاجة يقدر بقدرها، فأما الوجه فإنه يدل على محاسن المرأة وما وراءه من الأمور التي تكون تبعاً للوجه غالباً من طبيعة الجمال وحدوده؛ لأن أكمل ما يكون الجمال في الوجه، وأما بالنسبة لليدين والكفين فإن النظر إليهما لمعرفة طبيعة البشرة، وهذا يتحقق به المقصود من المرأة، يبقى قوامها وطبيعتها، وهذا يكون عند دخولها، فإنه يتمكن من رؤيته مع الحشمة ومع التحفظ كما سبقت الإشارة إليه.
وليس معنى الإذن بالنظر أن يختلي بالمرأة أو يخرج معها كما يفعل بعض من يتساهل بحدود الله عز وجل ومحارمه، فالمرأة إذا خُطبت تُركت تذهب مع مخطوبها قبل العقد عليها بحجة أن يرى أخلاقها وترى أخلاقه، أو يرى طبيعتها وترى طبيعته أو نحو ذلك من الحجج التي لم ينزل الله بها من سلطان، والتي تغري بالفتنة وتدعو إلى الفاحشة، ومقصود الشرع سد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله، فلا يجوز للرجل أن يختلي بمخطوبته، وعليه نص العلماء على أن هذا النظر يكون بالحدود الشرعية؛ فأولاً: لا يختلي بها وإنما يكون بحضور محرمها أو بحضور عدد من النساء من اللاتي يجوز له رؤيتهن كأخواته وأمه، فهذا هو الذي ينبغي مراعاته من جهة الخلوة، وأما نظره فإنه يكون إلى الموضع الذي يحصل به المقصود كما تقدمت الإشارة إليه.
ثم يبقى النظر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ودعا إليه؛ فأما فعله فإن الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قامت وسألته أن ينكحها صعد بصره فيها وصوبه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد الرغبة حتى طال الأمر فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فالشاهد: أنه نظر إليها وصعد النظر صلى الله عليه وسلم وصوبه، وهذا يدل على مشروعيته بالسنة الفعلية إضافة إلى السنة القولية، نظر الخاطب لمخطوبته مستحب في أصح أقوال العلماء رحمهم الله، لكن لو أن رجلاً خطب امرأة ووافق أولياؤها وعقد له عليها، ثم دخل بها ولم ينظر إليها، فإن هذا لا يوجب بطلان النكاح، والنكاح صحيح ولكن فاتته السنة، والخير كل الخير في اتباع هديه صلوات الله وسلامه عليه، والحرص على سنته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جعل الهداية والرحمة في متابعته صلى الله عليه وسلم.