[حكم الطلاق بالكناية]
مسألة: هل الطلاق ينحصر فقط في ألفاظه الصريحة، أم أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء وجمهور الأئمة من السلف من الصحابة والتابعين، ومنهم الأئمة الأربعة، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح، واستدلوا له بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي وأبي أسيد الساعدي -رضي الله عن الجميع-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج ابنة الجون) -وهي امرأة عقد عليها رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يدخل بها وكانت جميلة، (قال أبو أسيد: أنزلتها عند حائط بني ساعدة) والأشبه أن تكون سقيفة بني ساعدة، وكان هذا الحائط في الجهة الغربية إلى الشمالية من المدينة، ولا يزال إلى الآن معروفاً، وما زالت له بقية- قال: (فألم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها لما دخل عليها: هبي لي نفسك) وهذا من باب كريم معاشرته عليه الصلاة والسلام لزوجاته، فالزوج ربما يتحدث بشيء يحدث عندها نوعاً من السكينة ونوعاً من الرغبة.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هبي لي نفسك) ومرادنا بشرح هذه الكلمات، الجواب على الظاهرية؛ لأن الظاهرية يرون أن هذه المرأة ليست بمنكوحة وإنما هي مخطوبة، وأن الذي وقع أنها وهبت نفسها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (هبي لي نفسك) وهذا ضعيف؛ لأن هبة النفس تكون قبل الدخول، حتى يحصل الدخول بعد ذلك فتحل له، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:٥٠]، وقال تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:٥٠]، فكأنه يقول: أحللتها إن وهبت.
فالظاهرية ينفون أن هذا الحديث يدل على هذه المسألة، فهم يضعفونه من جهة أنهم يقولون: إنها وهبت نفسها، ولم يقع بعد النكاح، حتى يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (الحقي بأهلك) ليس من باب الطلاق، فهذا المراد.
ونحن نقول: هبي لي نفسك، من باب الاستئناس والمباسطة من كريم عشرته عليه الصلاة والسلام لأهله.
فقال لها: (هبي لي نفسك) فيقال: إن هذا شيء يقع بين النساء من باب العجب والغرور.
فقالت مغترة بنفسها من باب الإغراء: (وهل تهب العالية) وفي الرواية الصريحة: (هل تهب الملكة نفسها للسوقة)، هل تهب المرأة العزيزة والشريفة العالية نفسها، وليس المراد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوقة، وإنما مرادها أنها شيء كبير جداً، وأنها أرادت أن تتعزز، والنساء بهن شيء من التعزز من باب الإغراء.
فأرادت أن تغري رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات.
فقالت: (وهل تهب الملكة نفسها للسوقة) أي: العزيزة الكريمة هل تهب نفسها لمن دونها؟
الجواب
لا، فكأنها تقول: لا أهب.
وما جاءت بلا، لأنها لو قالت: لا أهب، لحصلت النفرة، فتأتي المرأة دائماً بالإغراء بكلمة تتضمن المعنى، وتريد شيئاً آخر.
فلما قالت ذلك: (مد يده إليها) إذا لو كان مرادها الإهانة لما مد يده إليها صلى الله عليه وسلم، فإنه أكرم من أن يقبل أن يهان، ولكن علم منها أنها تريد الإغراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات السير وقد تكلم العلماء على هذه الرواية: (أن أمهات المؤمنين قلن لها: إن أردت أن تكوني حظية، فقولي: أعوذ بالله منك -وكانت جميلة وكأنهن غرن منها- فلما مد يده إليها، قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد استعذت بعظيم، الحقي بأهلك) وكانت الحقيقة أنها حرمت من هذا الفضل العظيم.
فوجه الدلالة لما قال: (الحقي بأهلك) فجماهير العلماء والسلف، قالوا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (الحقي بأهلك) الذي هو ليس بصريح الطلاق، فليس بلفظ (طلاق) ولا (سراح) ولا (فراق) جعله طلاقاً.
فقال لها: (الحقي بأهلك) ونواه طلاقاً، فوقع طلاقاً.
فنازع الظاهرية في هذا، وقالوا: (الحقي بأهلك)؛ صَرْفٌ من النبي صلى الله عليه وسلم ورد لها إلى أهلها، وهذا ضعيف؛ لأن الرواية في الصحيح تقول: (أمرني رسول الله أن أردها إلى أهلها) وفي الرواية الأخرى: (وألحقها بأهلها) والقائل هو أبو أسيد، فقد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من عندها، فقال: (ألحقها بأهلها، واكسها زارقتين) والتي هي متعة الطلاق، وهذه متعة، والمتعة لا تقع على امرأة ليست بزوجة، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، أنه وقع الطلاق ووقعت متعة الطلاق، فقول الجمهور له قوة من عدة وجوه: الوجه الأول: أنه لا يمكن أن يدخل بها لو كانت واهبة لنفسها قبل أن تقع الهبة صريحة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده إليها، ولا تمتد يده إلى أجنبية، قال: (إني لا أصافح النساء) ولا يمكن أن تمتد يده لامرأة لم تحل له بعد، خاصة وأنه قال لها: (هبي لي نفسك) فلو سلمنا للظاهرية أنها هبة، ولم تقع بعد، فلا يمد يده إلا وقد حصل النكاح، ولا يقع هذا إلا وقد كانت المرأة زوجة.
الوجه الثالث: مما يؤيد مذهب الجمهور، قوله صلى الله عليه وسلم لـ أبي أسيد: (اكسها زارقتين) والزارقتين: ملحفتين -نوع من الثياب- فجعلهما متعة لها، والمتعة لا تكون إلا بالطلاق.
ولذلك قال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:٤٩]، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، وإذا ثبت هذا فإننا نخلص إلى حكم، وهو أن غير الصريح كالصريح، لكن بشرط وجود النية.