[الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها]
أما من زرع في الأرض شيئاً مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، ف
السؤال
إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة.
ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصّل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق.
وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل.
إذاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضاً وزرعها، والزرع باقٍ ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة.
مثال ذلك: لو أن زيداً اغتصب أرضاً، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئاً وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافاً للمال وإفساداً للثمرة؟ فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله.
إذاً: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة.
والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضاً أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله.
أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما.
وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضاً للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة.
وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه.
وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل.
فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق).
كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذٍ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكاً له.
مثال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائماً موجوداً، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه.
الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت.
ثانياً: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضاً وزرعها نخلاً.
أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائماً فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة.
وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.
بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه.