[حكم تذوق السلعة والورع في ذلك]
السؤال
هل يحق للمشتري أن يطعم من السلعة ليعرف جودتها كالتمر والعسل مثلاً، أم تكفي الرؤية؟ وهل للبائع منعه من ذلك، أثابكم الله؟
الجواب
هذه مشكلة، فبذلك يستطيع أن يفطر ويتغدى ويتعشى بأموال الناس، وهذا فيه تفصيل فبعض العلماء يجيز الذوق فيجعل البائع عينة للذوق، ويكون هذا بمثابة الحكم على الشيء الذي يتفاوت في جودته ورداءته من جهة حلاوة الطعم.
وبعض العلماء يمنع من ذلك.
فالعسل في بعض الأحيان لا تستكشف جيده من رديئه ومغشوشه من صالحه وخالصه إلا إذا ذقته، فيقول العلماء: إنه يمكنه من الذوق حين يكون المشتري فعلاً يريد الشراء، أما إذا لم يرد الشراء وجاء يذوق واغتنم تمكين البائع له من الذوق، فهذا يعتبر من طعمة الحرام، نسأل الله السلامة والعافية.
وأذكر عن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يتورع في مثل هذه الأمور، وكان إذا ذاق شيئاً ولم يعجبه أعطى اليسير من المال ترضية لصاحبه، فإن أبى أخذه حينئذٍ يطيب نفسه، يقول: أنا الذي عليَّ فَعَلْتُه، بل أذكر من مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يؤتى بالطيب والبخور من أجل أن يعرف جيده من رديئه، فإذا كان لا يريد الشراء امتنع من شمه، ويتورع عن هذا؛ لأنه لا يستبيح أموال الناس إلا وعنده رغبة صادقة، كما أنه لا يحب من أحدٍ أن يأكل من ماله أو ينتزع من ماله وهو لا رغبة له، فلو علم البائع أنك لا تشتري هل يعطيك؟ لو علم البائع أنك لن تشتري لما أعطاك، فهو راضٍ أن يعطيك لكي تشتري، ولذلك هذا هو الذي جعله رحمة الله عليه يقول: لابد أن أعطيه شيئاً من المال؛ لأنه أعطاني على رجاء أن آخذ، ولو علم أنني لا آخذ لا يعطيني، فلما ذقت الشيء الذي منه ولم أرغب فيه، فإني أعطيه المال الذي أطيب به خاطره أو أقدره شيئاً يسيراً بنفس الشيء الذي ذقته أو شممته، فالورع في هذا أفضل، فالشخص الذي لا يريد أن يطعم فإنه يتقي مثل هذا، خاصةً طلاب العلم وأهل العلم، وطعمة الحرام لها أثر على عبادة الإنسان، فإن العبد يقذف اللقمة لا يلقي لها بالاً يمنعه الله بها القبول في الصلاة وفي إجابة الدعاء ويقسو بها القلب، حتى لربما وقع في شبهة، ولربما وقع في فتنة -نسأل الله السلامة والعافية- وما طابت أقوال السلف إلا لما طابت أعمالهم وزكت نفوسهم وزكت أجسادهم عن الحرام، ومن زَكّى جسده وروحه عن الحرام زَكّى الله قوله وعمله، والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:١٤ - ١٥]، والزكاة الطهارة كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:١٠٣] فسميت زكاة لما فيها من الطهارة، فالذي يطهر نفسه عن أموال الناس يطهره الله عز وجل من تبعات الأموال، وقلّ أن تجد إنساناً جريئاً على مثل هذا إلا وجدت أثر الطعمة الحرام في قوله وفي فعله وسلوكه، فإن أراد أن يقصرها على نفسه اقتصرت عليه، وإن توسع في ذلك حتى أدخلها -نسأل الله السلامة والعافية- على أهله وولده فهو بشرّ الحال في نفسه وأهله وماله وولده، فالعبد يتقي الله عز وجل، فإن كنت لا تريد أن تشتري لا تدخل جوفك الطعمة، وتكون ناصحاً لأخيك المسلم، تقول: أنا لا أريد أن أشتري، قال لك: خذ، وتعلم أنه يجاملك، تعرض عنه وتقول له: لا أريد، وهذا هو أفضل ما يكون من طالب العلم وممن هو قدوة.
وطالب العلم ينبغي دائماً أن يطبق العلم الذي يتعلمه على فعله، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: العلم وبال على صاحبه فيما يضيّق عليه، ولكنه نعمة ورحمة فيما يئول إليه.
(فهو وبال عليك فيما يضيق)؛ لأنك تعلم أنه لا يجوز لك أن تطعم هذا الشيء وأنت لا تريد الشراء، ولو كنت جاهلاً لطعمت، لكن بالعلم ضُيّق عليك، وجعل الله لك حسن العاقبة بسلامتك من أموال الناس.
فالشاهد: أن العلم يضيق على صاحبه، ويتحمل به الأمانة والمسئولية فإذا كنت لا تريد أن تشتري فلا تأكل؛ لأن البائع لا يحب من أحد أن يطعم من ماله الذي يريد بيعه، والآخر لا يريد أن يشتري، فهذا أمر ينبغي للإنسان أن يتقيه.
وهنا أيضاً مسألة أحب أن أنبه عليها وهي من الورع: في بعض الأحيان يأتي الشخص للعامل الموجود في المحل، ويأكل من العنب أو يأكل من الشيء الموجود من الخبز أو غيره ويستأذن العامل، والعامل ليس مالكاً للسلعة، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان، حتى كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه لا يقبل توصية العامل وزيادته ويتورع عنها، ويجعله يزيد فقط في قدر رجحان الميزان، وإذا جاء يزيد من عنده قال: المال مال غيره، وكما قيل في المثل: (الجلد جلد غيرك لا بأس إن جررت الشوك عليه)، فالعامل مأذون له أن يبيع ومأذون له أن يربح، وليس مأذوناً له أن يخُسِّر صاحب السلعة، فإذا كان الشيء فيه عرف وربّ المال قد أذن له فهذا شيء آخر، بل حتى والله أذكر منه -رحمة الله عليه- أنه كان يتورع عن الكيس من (النايلون)، يقول: هذا أذن له سيده وصاحب الدكان أن يعطيه لمن يشتري وأنا لم أشترِ، فيتورع عن كل شيء، وهذا يقتضي أن الإنسان ينتبه لحقوق الناس، سواءً كان عند ذوق الأشياء أو حين يأتي إلى شيء لا يريد شراءه فيقول للعامل: أعطني، والعامل إذا رآه استحى منه، أو ربما خاف منه؛ وهذا يعتبر من قلة الورع، لكن حينما تأخذ أموال الناس بحقها وتعطيها حقها رضيت وأرضيت، وحينئذٍ لا تقذف في جوفك مالاً حراماً، فهذا الذي ينبغي للمسلم أن يفعله، فإذا فعل ذلك زكت نفسه وزكت أقواله وأعماله، وما ضر كثيراً من الناس إلا التساهل في الطعمة، وكما قلنا: إن الطعمة من الحرام قد تؤدي بصاحبها إلى النار، خاصةً حقوق الناس، وأما فيما بينك وبين الله، كالزنا وشرب الخمر -والعياذ بالله- وغيرها من المحرمات فإنه يفعلها الفاعل ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن كانت من كبائر الذنوب؛ ولكن لو أخذ طعمة من حرام، ولو كانت قدر أصبعه فلا يمكن أن تبرأ ذمته من هذه الطعمة أو هذا الحق لأخيه المسلم إلا إذا سامحه صاحب الحق.
ومما ذكروا من غرائب ما وقع للسلف: أن رجلاً حضرته الوفاة فبكى، وقال لأبنائه: سلوا جاري أن يحللني من حقه، قالوا: وما حقه عليك؟ قال: إني أصبت طعاماً كثر ودكه -أي كثر السمن فيه- فاحتجت إلى التراب فحككت جدار جاري! فاسألوه أن يعفو عني! فالمسلم دائماً يخاف من حقوق الناس، ودائماً الأشياء الكبيرة تنتج عن الأشياء الصغيرة، فيتساهل في طعمته من هذا ومن هذا ومن هذا حتى تجتمع عليه حقوق الناس فيهلك، وكان بعض العلماء يقول في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية: (مرهونة) إن بعض الناس تجده مشتت الفكر بسبب كثرة الديون التي عليه، وبسبب كثرة مظالم الناس وحقوق الناس؛ لأنها أحاطت به خطيئته وأوبقته حقوق الناس وأصبح كالمرهون يريد الصلاة يريد الزكاة يريد النشاط للعبادة فإذا به مكبّل بحقوق الناس لم يتحلل أحداً من مظلمته، وهذا من أعظم ما يوجب الخسارة للإنسان.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا وأن يسلم منا.
اللهم سلمنا وسلم منا وتب علينا وتجاوز عنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيّه وآله وصحبه أجمعين.