قال رحمه الله:[ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح].
(ويباح إلقاء النطفة) هذه المسألة وهي مسألة: إسقاط ما في البطن من النطفة والعلقة والمضغة والأجنة.
وهذا الإسقاط والإجهاض للأجنة فيه تفصيل: وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز أن تجهض وتسقط الأجنة بعد نفخ الروح، وأنه إذا نفخت الروح في الجنين وأسقطت المرأة ذلك الجنين فإنها تعتبر قاتلة، وهكذا إذا أعانها الطبيب فأعطاها دواءً أو علاجاً للإسقاط، وهكذا لو أعانت المرأة أو الرجل من النساء على الإسقاط بترويع أو تخويف أو حمل ثقيل ونحو ذلك.
فإذ نفخ الروح فلا يجوز إسقاط الأجنة؛ لأنها أنفس محترمة، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
أما قبل نفخ الروح ففيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والذي دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر فينفخ الروح فيه) فدل هذا الحديث على أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً.
ومن هنا اختلف فيما قبل نفخ الروح، هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من حرم ذلك ومنعه وقال: إنه لا يجوز، ومن أهل العلم من رخص فيه وجوز، وكلا القولين موجود في المذاهب الأربعة، إلا أن الذين شددوا من الحنفية والمالكية رحمهم الله وبعض أصحاب الإمام أحمد، والشافعية استدلوا بأدلة صحيحة قوية، فإن الأصل في الأجساد والأرواح أنه لا يجوز الإقدام على العبث بها أو تعريضها للتلف أو تغيير الخلقة، وهذا أصل دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله لما ذكر قبائح الشيطان ذكر منها: تغيير الخلقة: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[النساء:١١٩] فأخبر الله تبارك وتعالى أن مما يسوله الشيطان لعصاة بني آدم العبث في خلقته، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه أن ما قبل نفخ الروح من الخلقة، ولذا قال:(يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك) ولذا قال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}[المؤمنون:١٤] فدل على أنها من الخلقة، ونص السنة يدل أيضاً على أنه لا يجوز العبث في الخلقة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة قال:(المغيرات خلق الله) فجعل العلة في اللعن -والعياذ بالله- إقدامهن على تغيير خلق الله عز وجل، وثبت في الحديث الصحيح من كلامه عليه الصلاة والسلام بنص الكتاب والسنة على أن مراحل التخلق هي كما في قوله الله:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}[المؤمنون:١٤] فهذا يدل على أنها مخلوقة، وأنها من خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه نسب الخلقة إليه، فالإقدام على إتلاف هذه الخلقة وإزهاقها حرام؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي تحريمها، ولم نجد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفريقاً بين ما قبل نفخ الروح وما بعد نفخ الروح.
ثم استدلوا بالعقل وهو النظر الصحيح، وهو قياس قوي جداً: وهو أن جمهور العلماء منهم من يقول -كبعض أصحاب المذاهب- قالوا: إن هذه لم تخلق، فقالوا لهم: أرأيتم بيض الصيد، فإن الله حرم علينا قتل الصيد، فسئلوا عن بيض الصيد هل يجوز إتلافه؟ فقالوا: لا يجوز، وفيه الضمان، مع أن بيض الصيد سيئول إلى الخلقة المكتملة، وهذا يدل على حرمة الإقدام على إتلاف هذه الأشياء، ثم لا يشك عاقل على أن هذا خلق الله عز وجل الذي سيئول إلى الخلقة المعتبرة شرعاً، فبأي دليل يقدم على إسقاطه ومنعه من البقاء؟ وهذا الفعل يخالف الأصول الشرعية، فإن من المقاصد الأصلية في النكاح تكثير سواد الأمة، ونسل الأمة، وهذا الفعل يضاد تماماً قوله:(تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) وهذا يمنع مقصود الشرع من النكاح، فالذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول الشرعية والأدلة أنه ليس هناك دليل قوي يدل على جواز الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الروح لا تنفخ إلا بعد المائة والعشرين يوماً ليس فيه دليل على جواز إتلاف هذه الخلقة، فإن العبث بهذه الخلقة والإسقاط للأجنة له آثار سلبية، وحتى الأطباء أنفسهم يقررون هذا، فإن المرأة إذا أقدمت على تعاطي الدواء أو تعاطي الأسباب التي تسقط الجنين فإنه لابد من وجود أثر لهذا التعاطي ولهذا الفعل، ولابد من وجود تبعات ومضاعفات تضر بالمرأة وتضر بجسدها، ولا يمكن أن الإنسان يشك في هذا، فالجسد إذا أخرج عن عادته وطبيعته لابد أن يتضرر، فلو استعمل الدواء لابد له من أثر، ولو تعاطت الأسباب الشنيعة الفظيعة من الترويع أو حمل الأشياء الثقيلة فإنها قد تسلب ويحدث معها نزيف وتضطرب عادتها، ويحدث لها من الأضرار في جسدها ما لا يخفى في كثير من الأحوال التي يفعل أو يقدم فيها على الإسقاط، وبناء على ذلك: فالذي نعرفه من نصوص الشرع وأصول الشريعة أن الواجب على الطبيب أن يقدم على علاج الأبدان ووقايتها من الضرر، أما أن يقدم على إسقاط الأجنة والعبث في خلقة الله عز وجل فهذا ليس له دليل لا من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس للذين قالوا بجواز الإسقاط إلا دليل واحد وهو حديث ابن مسعود الذي تقدم وقد أجبنا عنه، بل حديث ابن مسعود رضي الله عنه يقوي عدم جواز الإسقاط؛ لأنه يدل أنه من خلق الله، والنصوص تدل على عدم العبث في خلق الله فيقتضي المنع.
ثم أيضاً تجد نفس المذاهب والأقوال التي أجازت الإسقاط تجدها مضطربة في الفتوى والقول بجواز الإسقاط، والذي تطمئن إليه النفس ترك هذه الأجنة وترك هذه الخلقة وعدم إقدام الأطباء على إسقاط الأجنة سواء كان قبل نفخ الروح أو بعده.