[ينفسخ عقد الإجارة بموت المرتضع]
قال رحمه الله: [وبموت المرتضع].
وتنفسخ الإجارة بموت المرتضع، عندنا المرتضع والمرضعة، وقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى أحل الإجارة على الرضاع، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:٦] فأثبت الأجر واستحقاق الأجرة بالرضاعة، فدل على مشروعية التعاقد على الرضاع.
فمن الصور التي تنفسخ فيها الإجارة: إذا استأجر امرأة لإرضاع بنته، فاتفق معها على أن ترضعها سنة كاملة، فماتت الصبية في منتصف العام، أو ماتت قبل ابتداء الإجارة، فإن ماتت قبل ابتداء الإجارة انفسخت وليس للمرضعة شيء، وإن ماتت أثناء المدة استحقت المرضعة بقدر ما أرضعت من الزمان، فلو ماتت في ثلث السنة الأول كان لها أجرة الثلث، وإن ماتت بعد تمام النصف الأول فإنه يكون لها حظ النصف الأول وهكذا، تقسط الأجرة، وهذا أصل في الإجارة: أنها تقسط على حسب المنافع المتفق عليها.
أيضاً إذا ماتت المرضعة وهي المرأة التي ترضع، فإنه ينفسخ العقد؛ والسبب في هذا: أن المنفعة فاتت الإجارة؟ ونحن نحكم بالفسخ إذا فاتت المنفعة المشتراة، ودائماً تكون المنافع تحت الأعيان، فعندنا ذوات وعندنا منافع، فإذا استأجر بيتاً فالذات البيت -البناء- والمنفعة السكنى، فإذا انهدم البيت انفسخ العقد؛ لأنه لم يعد هناك منفعة وهي السكنى بعد انهدام البيت وسقوطه.
وكذلك لو استأجر دابة للركوب وماتت، كانت الإجارة على عينها وذاتها، ولم يمكن إقامة غيرها مقامها، فحينئذٍ تفوت بفواتها.
فالمصنف رحمه الله قال: تنفسخ بتلف العين المؤجرة، وهذا مثلما ذكرنا في البيوت والمساكن من غير الحيوانات.
وتنفسخ بموت المرتضع، وهذا مثال للحيوان -من الآدمي والحيوانات- فإذا ماتت المرأة المرتضعة أو الرضيع الذي يرتضع فإنه يحكم بفسخ الإجارة.
وقد يسأل سائل ويقول: حكم الفقهاء ونص المصنف رحمهم الله على أن عقد الإجارة ينفسخ إذا مات المرتضع، أليس بالإمكان أن يؤتي برضيع آخر ويقام مقامه، ونقول: تصحيح العقود ما أمكن؟ قالوا: لا يمكن؛ لأنه حينما استأجر المرأة لإرضاع هذا الصبي بعينه فإنه لا يمكن بحال أن تأتي بصبي يرضع كرضاعته، ويحن لهذه الأم مثله، ويأخذ منها من اللبن بقدر ما يأخذه الأول، فلا تستطيع أن تقيم الغير مقامه بالعدل.
هناك مسائل ستأتينا ولا نحكم فيها بانفساخ العقد؛ لأنه يمكن تحقيق المنفعة وتحقيق العدل بين الطرفين، وهذا من دقة الشريعة: أنه إذا تم العقد على صورة ومنفعة بحدود قيدت بها.
فهو إذا أقام رضيعاً آخر لا يمكن أبداً أن يأتي رضيع آخر مثل الرضيع الأول، فالناس يختلفون في الشبع والري، ويختلفون في الرضاعة، ويختلف حال الصبي من امرأة لأخرى، فقد يرتضع من امرأة ويحب لبنها ويرضى بها ويقبل على ثديها، وقد تحرم عليه المراضع فلا يقبل بالمرضعة، وقد يكون بين بين، تارة يقبل وتارة يدبر، فكيف تقيم طفلاً مقام طفل مع اختلاف الطبائع واختلاف الأحوال؟! وعليه فتفوت المنفعة بموت المرتضع، وبحكم بانفساخ العقد لتعذر إتمامه على الوجه الذي كان عليه الأول، ولا يتم عقد الإجارة إلا إذا كان هناك عدل بين الطرفين، واستيفاء للحقوق كما اتفق عليه المتعاقدان.
كذلك لو ماتت المرأة المرضعة فلن تستطيع أن تجد امرأة لبنها كلبن هذه المرأة في خصائصه وطبائعه وكميته؛ لأنها تختلف، فالمرأة التي تحمل لأول مرة وتدر لبنها، ليست كالمرأة التي في ثاني مرة ولا في ثالث مرة، والمرأة المتوسطة ليست كالمرأة البكر، وهكذا، فالانضباط متعذر، فيتعذر أن تقيم الغير مقام الأصل الذي اتفق عليه، فيفوت العقد بفوات الأصل.