[تحريم كل نجس وضار من الأطعمة]
قال رحمه الله: [ولا يحل نجس] ولا يحل نجس: هذا المفهوم جاء بالمنطوق تقريراً للأصل: أنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، والمفهوم: يحرم كل نجس، وكل ما فيه ضرر.
والنجس في لغة العرب أصله: القذر، والقذر: هو الشيء الذي تعافه النفوس؛ من المستقذرات، والأشياء الخبيثة، فإنه يحرم أكل النجاسات، والأصل في ذلك: تحريم الله للميتة، وما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما حرم لحوم الحمر الأهلية، نادى مناديه -كما في الصحيح- قال: (إنها رجس)، والرجس: هو النجس، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل كل النجاسات.
قوله: [كالميتة] الميتة: هي الحيوان الذي هلك حتف نفسه بغير ذكاة.
والميتة لا توصف إلا في الحيوانات، فلا يمكن أن نقول للبرتقال ميتة، ولا للتفاح؛ لأنه لا توجد فيه حياة، إذن العلماء رحمهم الله إذا قالوا: ميتة، فمعناه: أنه متعلق بالحيوان، وتوضيح ذلك: أن الحيوان إما أن يذكى؛ إذا كان من جنس ما يذكى، وإما أن يموت حتف نفسه، أو بذكاة غير معتبرة شرعاً، ولذلك نجد بعض الفقهاء في تعريفه للميتة يقول: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة، لأنه لما قال: هلك حتف نفسه، مثل الشاة تموت بأمر الله عز وجل، يعني: تموت فجأة، ولو أن شخصاً أمسك الشاة فخنقها، أو وضعها في ماء حتى هلكت، أو رماها من شاهق حتى تردت، فهي منخنقة، أو متردية، أو رماها بحجر على رأسها فهلكت فهذه موقوذة، فكل هذه الأنواع ميتة، ولكنها ماتت بغير ذكاة شرعية، ولذلك نجد بعض العلماء يضيف هذا القيد: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة شرعية، حتى يشمل النوعين.
والميتة نجسة، ولا يجوز أكلها؛ لأن الله تعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:٣]، وذلك في آية البقرة، وآية المائدة، وقال تعالى أيضاً في آية الأنعام: {قُُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:١٤٥] فهذه النصوص تدل على حرمة أكل الميتات؛ من الإبل، والبقر، والغنم، ويقال: ميتة، لما له ذكاة، وللحيوان الذي في الأصل لا يؤكل إذا مات، لأنه يعتبر ميتة، فاجتمع فيه التحريم بالأصل، والتحريم بعدم وجود الذكاة، وهذا مبني على مسألة حله عند الاضطرار، هل يشترط فيه الذكاة أو لا؟ كما سيأتي في باب الذكاة.
فالميتة لا يجوز أكلها، كلاً وجزءاً، ولا يجوز الانتفاع بها، إلا ما ورد الدليل من الانتفاع بجلدها، وهذا الأصل محل إجماع عند العلماء رحمهم الله.
[والدم]: لا يجوز شرب الدماء، والدم المراد تحريمه هنا: الدم المسفوح، وهو: الدم الذي يسبق الموت، والدم الذي يكون أثناء التذكية، فلو أن شاة جرحت، فتطاير دمها على ثوب الإنسان، فإن هذا الدم دم مسفوح، والدم هو الذي يكون بغير ذكاة، سواء سبق الذكاة أو أثناء الذكاة، ولو أراد أن يذبح الشاة أو ينحر البعير، فتطاير عليه دمه فإنه نجس، وهو الذي يسمى بالدم المسفوح: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:١٤٥]، فالدم المسفوح: هو الذي يكون في البهيمة حال حياتها إذا نزفت، أو قطع عضو من أعضائها فجرى منها الدم، أما الدم الذي يكون في الحيوان المذكى بعد ذكاته، فإنه طاهر، فلو أن شخصاً أتى عند جزار، والجزار يقطع له كتفاً من شاة مذكاة، فتطاير عليه دمها، فإنه طاهر، لكن الدم الذي يكون في الرقبة، والدم الذي يكون في السفح-الذكاة- أو أرسل سهماً، أو ببندقيته، فضرب بهيمة فتطاير دمها؛ فهذا الدم المسفوح الذي يكون أثناء الذكاة نجس.
فلا يجوز شربه، ولا الائتدام به، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيعه، لكن يجوز الانتفاع به في حال الاضطرار، كما لو احتاج إلى أن يتبرع بدمه لإنقاذ نفس، فهذا استثناه الله عز وجل في قوله: (إ ِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:١١٩]، وقوله سبحانه: {إ ِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:١٧٣]، فإذا توقفت حياة شخص على أن يُتبرع له بالدم، فإنه يجوز للإنسان أن يتبرع له، وينوي إنقاذ حياته، وهو مأجور على ذلك، ويدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢]، وهذا الدم يعتبر من إنقاذ الأنفس، وتكون الحالة حالة اضطرار.
[ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه]: لا يجوز أكل ما فيه مضرة كالسم؛ لأن السم قاتل -أعاذنا الله وإياكم منه- وهو يكون في الحيوانات، ويكون في النباتات، ويكون في الجمادات، فسم الحيوانات: مثل ما ذكر العلماء: في السمك، فهناك نوع من أنواع السمك، يقولون له: السمك المسموم، ويكون في الحيوانات كالوزغ الأبرص، فإنه من الحيوانات المسمومة -وذكروا: الزنبور، والنحل- الميت منه يقتل الإنسان غالباً إذا أكله، فهو محرم، سواءً كان من الحيوانات، أو كان من النباتات كالخردل، أو كان من الجمادات كالزرنيخ، فهذا لا يجوز أكله.
إذاً: سبب تحريم السم وجود الضرر، فإن كان السم لا يشتمل على ضرر، بمعنى أن يتعاطاه الإنسان بطريقة لا تضره، ولا تأتي ببلاء عليه في عضو من أعضائه، أو في جسده، فيجوز أكله، ويجوز تعاطيه للحاجة، مثل الدواء، فبعض الأدوية توضع فيها جرعات من السم، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعاطي السم للوقاية، كما كان يفعله بعض الأطباء للعظماء، والسلاطين إذا خشوا أن يُسموا، فكانوا يعطونهم جرعات من السم، حتى يصبح الجسم قابلاً للسم، فكانوا يرخصون في هذا؛ لأن سبب التحريم خوف الهلاك، والعلة إذا زالت يزول الحكم المترتب عليها، وعلى هذا لو زال أو غلب على ظنه أنه لا يستضر فإنه يجوز تعاطيه.
أما بالنسبة لدليل تحريم السم فقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥]، والسم ينتهي بالإنسان إلى الموت، وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:٢٩]، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحسى سماً فمات منه، فهو في نار جهنم يتحساه، خالداً مخلداً فيها)، فهذا يدل على تحريم أكل السموم.
وإذا ثبت أنها حرام، فإنه يحرم بيعها، إلا إذا كان على الوجه الذي استثنيناه، ولكن لو علم أن شخصاً سيأخذ السم، ويقتل به نفساً محرمة فلا يجوز وهكذا.
ومما يتفرع على هذه المسألة بيع الأدوية ممن لا يحسن صرفها، كأن يبيعها الصيدلي، أو يعطيها للمريض، أو يصرفها طبيب ليس من تخصصه، والأدوية، إما أن تكون فيها سموم، أو فيها ضرر، وكلاهما موجب؛ لأن أصل تحريم أكل السموم: الضرر، فالقاعدة العامة: وجود الضرر، والمثال: السم، فإذا كانت الأدوية تصرف من شخص ليست عنده أهلية، فالغالب الضرر، وحينئذ لا يجوز أن يأكلها، ولا يجوز أن يتعاطاها.