[حكم بيع الملامسة والمنابذة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يصحُّ بيع الملامسة].
في الكتب الفقهية نكت لطيفة، وإذا تأملت ودققت في العبارات وفي الأمثلة وفي الترتيب تدرك فقه الفقيه، فانظر كيف رتب المسائل هنا، فذكر أولاً بيع الحمل في البطن، ثم بيع اللبن في الضرع، ثم بيع النوى في التمر، ثم بيع الصوف على الظهر، ثم بيع الفجل قبل قلعه، ثم بعد ذلك قال: (ولا يصحُّ)، وجاء بالعطف لجملة مستأنفة؛ لأن هذا له دليلٌ خاص، ووردت به السنة، وهو بيع الملامسة، والأول له دليل ويعتبر قاعدة عامة وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فاندرجت كل الصور تحته، لكن هنا بيع الملامسة جاء فيه نصٌّ بعينه، فقال: (ولا يصحُّ بيع الملامسة) تأكيداً على التحريم، وقال: (لا يصحُّ) ولم يقل: ولا يجوز؛ لأنه قد يكون الشيء لا يجوز ولكنه يصحح بيعه التفاتاً إلى العقود، فيحرم البيع ويأثم البائع لكن البيع صحيح، كالبيع بعد أذان الجمعة فعند جمهور العلماء يصحُّ البيع ويأثم المتبايعان؛ لأن شروط البيع وأركانه متوافرة، فقال: (ولا يصحُّ) وهذا أبلغ ما يكون في البطلان؛ لأنك إذا قلت: (لا يصحُّ) فإنه يحكم ببطلان البيع وإثم البائع إذا علم أنه من المحرم فباع به واشترى.
وقوله: (الملامسة): مفاعلة من اللمس، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كأن تقول: مقاتلة ومضاربة ومشاتمة؛ فإن الرجل لا يقاتل نفسه ولا يشاتمها ولا يضاربها، فقال هنا بصيغة المفاعلة؛ لأنها تستلزم البائع والمشتري.
وأصل اللمس: إفضاء البشرة إلى الشيء، يقال: لمسه بيده إذا أفضى بكفه وبطن راحته فالتمست البشرة بالشيء الملموس، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:٨] أي: أفضوا ببطن أيديهم أو بالراحة إلى ذلك الكتاب.
وبيع الملامسة من بيوع الجاهلية، والله سبحانه وتعالى حرّم هذا النوع من البيوع لحكم عظيمة، تقوم على دفع الضرر عن المشتري لاشتماله على شيء من التغرير، وهنا في هذه الجملة شرع المصنف في نوع آخر من بيوع الغرر، فالأول الغرر بالجهالة، وهنا الغرر بالجهالة من جهة الاشتراط وذلك بالعرف، فقد كان من عُرْفِ الجاهلية: أن الرجل إذا جاء يبيع الثوب جعله مطوياً مطبّقاً، وقد كانوا في أسواق الجاهلية يضعون الثوب على الأرض فمن يريد أن يشتريه فليأخذه، فيأتي رجل فينظر في الثوب فإن أعجبه يأتي ويلمسه دون أن يفتشه، ودون أن يرفعه حتى ينظر جليّة ما في الثوب، إنما يقوم باللمس، وهذا يقع على صورتين: إن كان في الليل فلا إشكال؛ لأنه لا يُبصر المبيع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: بيع الملامسة أن يبيعه ليلاً، والبيع في الليل يقوم على اللمس دون استكشاف ومعرفة لجلية المبيع، أو يبيعه نهاراً ويقول له: هذا الثوب لا تفتشه، فيقول العبارة التي ذكرها العلماء: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك.
ووجه التحريم في هذا النوع من المبيعات: أن لمسه لا يكشف جليته، فلربما كانت طريقة التفصيل وطريقة العرض على وجه لا تحبه ولا ترغبه، فيختلك بتطبيقه ويزعم أن لمسك قائمٌ مقام نظرك، كذلك أيضاً من التغرير الذي يقع في هذا النوع من المبيعات أنه ربما كان العيب داخل الطي، أي: داخل الثوب في حال طيه، فإذا تفقدته باللمس لن تستطيع أن تصل إلى العيب، ومن هنا قال العلماء: إن هذا النوع من البيع يعتبر من بيوع الغرر؛ لأن البائع يريد أن يختل المشتري، إذ لو كان الثوب صالحاً ولا عيب فيه لما خاف أن يفتشه ويفتحه، فحرّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع، وهو أن أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، وهذا نوع من أنواع الملامسة.
هناك نوع ثانٍ من أنواع الملامسة، وهو أن يقول له: إذا لمست الثوب فهو عليك بعشرة، فيبقى الثوب أمامه، فبمجرد أن يمد يده وتفضي راحته إلى الثوب، وجب عليه البيع، وهذا أعظم غرراً من الأول، فالأول على الأقل يلمس ويستكشف؛ ولكن هنا بمجرد اللمس يلزمه بالبيع، وبعضهم يقول له: إذا لمست الثوب فلا خيار لك، أي: يقطع له خيار المجلس باللمس، وكل هذه الأنواع من البيوع مجمعٌ على تحريمها، وبالنسبة للصورة الأولى وهي: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، هذا بيع من بيوع الجاهلية، والذي يشبهها في عصرنا الحاضر أن يقول له: إذا فتشت هذا الكرتون أو فتحت هذا الغلاف فقد وجب عليك البيع ولا خيار لك، ويلزمه بالبيع بمجرد أن يفتح علبة المبيع أو يفتح الكرتون، وفي هذه الحالة كأن المشتري يلزم بالبيع في شيء لم يعرف حقيقته ولم يستكشف جليته، وهذا يعتبر من بيوع الملامسة المحرمة، وربما يقع أيضاً في الثياب فتكون الثياب داخل غلاف من (النايلون) أو الأكياس الموضوعة فيها للعرض، فإذا جاء المشتري وفتشه ألزمه بالبيع وحرّم عليه أن يرد المبيع، ويلزمه إياه فرضاً، وهذا مثل قوله: إذا لمست الثوب فلا خيار لك، فيقطع له الخيار، وكذلك لو فتش هذا الكيس فرآه فلم يعجبه فقال: لم يعجبني، يقول: ما دمت فتحته وكشفته فإنه لازم عليك، ويلزمه ويقهره على البيع، وهذا لا يجوز.
لكن هنا إشكال: وهو أن البائع يقول لك: لو أنني سمحت لكل زبون أو لكل مشترٍ أن يفتش هذه السلع فإن الفتش يؤثر في طريقة عرض البضائع، وأتضرر إذا كانت بضائعي تفتش، ثم -كما هو معلوم- إن البائع والمشتري ما داما أمام بعضهما في مجلس واحد فالخيار لهما، حتى ولو قال له: لا أريد، فمن حقه.
كأن تشتري سلعة بعشرة فتعطيه العشرة، ثم بعد ساعة أو ساعتين وأنتما واقفان في المكان قلت: لا أريد، فهذا من حقك، ويلزمه أن يرد، حتى ولو لم يكن عندك عذر، وهذا الذي يسمى بخيار المجلس، وسيأتينا أنه ما دمت أنت والبائع في مجلس واحد ولم تفارقه فالبيع ليس بلازم، ومن حقك أن ترجع، حتى ولو لم يكن عندك عذر، ولو اشتريت بالملايين وقلت له -مثلاً-: اشتريت منك العمارة الفلانية بعشرة ملايين؛ فقال: بعتك، وتم البيع، وأعطيته الشيك، وتمت الصفقة وكتبت، ثم قلت: لا أريد، فهذا من حقك ما دمتما في المجلس: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، هذا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشاهد: أن البائع يقول: ما دام أن المشتري بالخيار مدة المجلس، فمعنى ذلك أنه سيفتش السلع ويردها، ويقول: لا أريدها.
وإن أذنت لكل مشترٍ أن يفتش السلعة فمعنى ذلك أنني أتضرر؛ حيث إني أحسن طيها وكيها، فيأتي يفتش كل واحدة، وهذا يؤثر على عرض السلع، ويكون فيه ضرر عليَّ، فما الحل؟ تقول له: أخرج عينة واحدة منها، فإذا أخرج البائع العينة وجعلها للعرض، يقول له: هذا الثوب من هذا النوع، وطريقة تفصيله بهذه الصورة، أو يصوّر الثوب بصورة واضحة، وتوضع على الغلاف، أو على الكرتون، أو توضع المواصفات كاملة على الكراتين، أو على الأغلفة، عند ذلك يصحُّ البيع، لماذا؟ لأن العلة أن يجهل المشتري حقيقة ما في الكرتون، فإذا انطبقت الصفة الموجودة على الظاهر مع الباطن، أو انطبقت الصفة التي ذكرها البائع للمبيع الداخلي فإنه يلزمه البيع، أمّا لو اختلفت كان له خيار العيب، والذي يسمى خيار الرؤية؛ لأنه بيع غائب أو ما في حكم الغائب.
قال: (ولا يصحُّ بيع الملامسة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين: (أنه نهى عن الملامسة)، وللعلماء فيها أوجه: فقال بعض العلماء: الملامسة أن يقول: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك.
وقال بعض العلماء: أن يقطع الخيار باللمس، فيقول: إذا لمست الثوب فلا خيار لك.
وقال بعض العلماء: أن يقول له: أي ثوب تلمسه فهو عليك بعشرة.
تبقى مسألة وهي التخريج على بيع الملامسة الذي كان في الجاهلية: فقد خرّج الشافعية رحمهم الله على قوله: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، أنه لا يصحُّ شراء الأعمى؛ والسبب في هذا أن الأعمى يشتري السلع باللمس؛ لأنه لم يرها على حقيقتها.
وقال جمهور العلماء: بصحة بيعه وشرائه، ثم يكون له الخيار إن كذب عليه أو ختل؛ والسبب في هذا: أن الأعمى يلمس الثوب ويفتشه، ولكن في الملامسة يلمس ولا يفتش.
وهناك فرق بين اللمس دون الفتش، وبين اللمس مع الفتش، فالغرر مع الفتش أخف، ولذلك لا تنطبق عليه الملامسة من جميع الوجوه، فلا يصبح مندرجاً تحت التحريم.
قال رحمه الله: [والمنابذة].
(المنابذة) ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، والمنابذة كالملامسة: مفاعلة من النبذ، وأصل النبذ الطرح، ومنه سمي النبيذ نبيذاً؛ لأن صفته أن يُطرح التمر في الماء، أو يُطرح البلح في الماء حتى يستطيب ويعذب بطعم التمر والبلح، وهذا النوع من البيوع حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لاشتماله على ختل المشتري والتغرير به، وذلك أن البائع يقول للمشتري: إذا نبذت الثوب فهو عليك بكذا، أو يقول له: أي ثوب أنبذه لك -أي: أرميه- فهو عليك بعشرة، وبعض الأحيان يقول له: إذا نبذت الثوب فلا خيار لك، كل هذه الصور محرمة؛ والسبب في هذا: أنهم كانوا في القديم يأتي الرجل -كما ذكرنا- ويبسط ثوبه للبيع، ويمر رجل يريد أن يشتري، فإذا أعجبه الثوب الذي طُرح للبيع رمى ثوبه هو، فإن أعجب الآخر الثوب يقوم مباشرة وينبذ له الثوب، ولا يقول له: بعت، ولا يقول الآخر: اشتريت، وهذا وجه الغرر فيه وهو أنه لا يفتش، بل يجعلان النبذ ملزماً بالبيع.
على هذا الوجه -وهو كون بيع المنابذة محرماً؛ لأن كلاً منهما ينبذ ولا يتكلم- فرّع الشافعية المسألة المتقدمة معنا وهي تحريم بيع المعاطاة، والمعاطاة قائمة على النبذ بدون صيغة، فقالوا: إن تحريم بيع المنابذة سببه عدم وجود الصيغة في قوله: بعت، وقول المشتري: اشتريت، وقد قدّمنا الكلام في مسألة بيع المعاطاة، وقلنا: إن الصحيح مذهب الجمهور وهو: أنّ المعاطاة تصحّ في الكثير والحقير؛ لعموم الأدلة الدالة على جواز البيع.
أمّا حديث المنابذة فلا يشمل بيع المعاطاة؛ لأن المنابذة أن ينبذ له الثوب وينبذ الآخر الثوب دون فتش ودون