للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لزوم التفكر في مخلوقات الله سبحانه]

السؤال

فضيلة الشيخ! في توجيهكم لطلاب العلم بالنظر إلى الثمرة، ومعرفة صفاتها، هل هو مستنبط من قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:٩٩]؟

الجواب

{ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:٩٩] لا شك أن هذا مما يزيد من توحيد الله عز وجل والإيمان بالله، ومن أعظم نعم الله على العبد، بل ومن دلائل الشهادة إذا أراد الله أن يشهد العبد ملأ قلبه بالتفكر، فهو من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، وهذا هو الواجب على ولي الله المؤمن؛ أنه لا تمر عليه لحظة إلا وزادته من الإيمان بالله، وهو على يقين أن مكانته ومنزلته في هذه الدنيا بل وفي الآخرة موقوفة على الإيمان بالله عز وجل، فإذا أصبح يتفكر في كل شيء وينظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله عز وجل في هذا الكون، ويتخذ من ذلك معيناً على الإيمان بالله وعظمته، والله إن العقول لتحار {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:٩٩] تجد نخلتين متجاورتين، هذه النخلة بجوار هذه النخلة، تسقى بماء واحد، وهذه ثمرتها من ألذ ما يكون إذا كانت بلحاً، وهذه ثمرتها من أمرِّ ما يكون إذا أكلتها وهي بلح، ثم تجد الأخرى تؤكل بلحاً وهذه تؤكل تمراً، السكري الآن إذا أردت أن تأكله بلحاً لا تستطيع أن تأكل حبة واحدة لأنها مرة كالحنظل وهي بلح، وبعضها حلو وهو بلح، وحلو وهو رطب، وحلو وهو تمر، الحلية لو أكلتها بلحاً لا تشبع من حلاوتها ولذتها، وتأكلها رطباً وتأكلها تمراً، والحلوة تأكلها وهي خضراء وتأكلها وهي حمراء، وتأكلها وهي رطب، وتأكلها وهي تمر، ولكن لا تستطيع أن تأكل غيرها على هذه المراحل وهذا كله يزيد من الإيمان.

تصعد إلى النخلة وتجني ثمرتها فتخرج رطبها وبلحها وتمرها وأنت الذي غرست، وأنت الذي سقيت، وأنت الذي تعاطيت بإذن الله عز وجل كل الأسباب لخروج هذه الثمرة، ولكن الله عز وجل لم يجعل لك فيها رزقاً ولا طعمة، فإذا بك تخرجها وتضعها في الصندوق، وتنزلها إلى السوق، فإذا بمسافر غريب مر على المدينة أو على مكة فيحمل هذه الثمرة طعمة لرجل في أقصى الشرق أو أقصى الغرب؛ لأن الله جعل له في هذه الطعمة رزقاً، كتب الله عز وجل لهذه الثمرة متى تخرج؟ وكيف تخرج؟ والزمان الذي تخرج فيه، والصفة التي تخرج عليها طويلة! قصيرة! حلوة! مرة! ثم متى تجنى، ويجنيها عبده فلان في الدقيقة الفلانية والثانية الفلانية واللحظة الفلانية، وتوضع في الكيس الفلاني وفي الموضع الفلاني، ويحملها فلان، وتنقل إلى فلان، فلا إله إلا الله ما أعظم الله! يقول ابن عباس: (والله الذي لا إله إلا هو ما من ورقة على شجرة إلا عليها ملك يكتب خضرتها وماءها ويبسها وذبولها، ومتى سقطت وكيف سقطت وأين حملتها الرياح)؛ كل ذلك مكتوب، وما يعلم جنود الله إلا الله وحده لا شريك له؛ والكون مع أنه متناثر، لكن ليس فيه مثقال خردلة ولا أدق من ذلك إلا وهو في علم الله جل جلاله، وهذه أمور تحار فيها العقول، الثمرة تسقى بماء في مكة، ويطعمها رجل في أقصى الشرق وأقصى الغرب؛ لأن الله جعلها طعمة ورزقاً له، فالله سبحانه وتعالى قدر الأشياء.

إنا نقولها ويقولها المؤمن، والواجب على كل إنسان أن يقولها: والله لا نأسف على أموال، ولا نأسف على أننا نخرج من الدنيا وما بنينا ولا ملكنا، ولا أصبحت الأموال بأيدينا، ولا ثراء الدنيا، والله ما نأسف ولا نتألم ولا تتقرح القلوب إلا إذا خرجنا من الدنيا وما قدرنا الله حق قدره، والله ليس الأسف على الدنيا ولا على جاهها ولا على مالها ولا على عزها ولا على كرامتها، بل الأسف كل الأسف أن يخرج العبد من هذه الدنيا وما قدر الله حق قدره، وإذا بالصالحين والأخيار والموحدين من المؤمنين الكاملين في إيمانهم وتوحيدهم يخرجون بمثاقيل الحسنات في الإيمان بالله، لحظة من التفكر في ملكوت الله عز وجل قد يفتح الله لك بها باب سعادة لا تشقى بعدها أبداً، لأنك إذا عرفت الله أمنك من الخوف، وأعزك من الذل، وأكرمك من المهانة، ورفعك من الضعة، وأغناك من الفقر، وأولاك وأعطاك؛ لأنك ما خلقت إلا من أجل أن تعرفه.

والله إن العبد ليحار! تفكر في ساعات هذا الكون ولحظاته كلها، جعلها الله لكي تذكره بتوحيده سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما أغفل الخلق عن الخالق! في كل يوم تغرب الشمس، ولو وقفت قبل غروبها بلحظات لجار عقلك من عظمة الله جل جلاله في ساعة مغيبها وطريقة غروبها، ومع ذلك فهي في كل يوم تغيب وما أحد وقف أمام الشمس وهي تغيب فيقول: لا إله إلا الله، ويقول: سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء! سبحان ذي الملكوت! سبحان ذي العزة والجبروت! فيقدر الله حق قدره، ولكن الله حليم واسع الرحمة، ولا يبالي سبحانه بنا، فإنا إن تفكرنا في عظمته لم نزد في ملكه شيئاً: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً) وعزة ربي إنه لغني عنا ونحن أفقر ما نكون إلى التفكر في عظمته جل جلاله.

ربما تقف في موقف معين من آية زمانية أو آية مكانية تدلك على وحدانية الله عز وجل، يصبح عندك من رسوخ الإيمان مالا تبالي معه بهذه الدنيا أقبلت أو أدبرت؛ لأن الذي يعرف عظمة الله سبحانه وتعالى يهون عنده كل شيء، ويصبح الخوف عنده أمناً؛ لأنه يحس بعظمة الله، وما جاء الخوف إلا من الجهل بالله، ولا جاء القلق والضعف ولا الخور إلا بسبب ذلك، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] تكفل الله عز وجل لك بأمرين: الأمن والهداية وتفكر في حال عبد سعيد جعل الله له الأمن والهداية! فأسعد الخلق من جعل الله له الأمن والهداية بالمعرفة بالله، فإن من عرف الله أصبح في غاية الأمن على قدر معرفته بالله سبحانه، والله إنا أدركنا بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم يأخذ الثمرة ويبكي، يأخذها وهي خضراء ويبكي من عظمة الله عز وجل، يتفكر ويقلبها ويتدبرها فلا تملك عينه إلا أن تفيض من خشية الله جل جلاله، قلت: ثمرة تزيد من إيمان ونحن في غفلة! الواحد منا يتبجح في الصناعات والاختراعات، ونأتي في المجالس نقول: اكتشفوا كذا وفعلوا كذا سبحان الله! والملكوت والجبروت والعزة والعظمة في حق الله لا يتكلم عنها أحد! فما أحلم الله عن خلقه! وما أغناه عن عبيده! الناس تتحدث بالمخترعات والموجودات، ضعف الطالب والمطلوب، وإذا حصل فيها أقل خلل ارتبكت ودمرت، وحدثت منها من الكوارث ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن خلق الله عز وجل ما اختل يوماً من الأيام ولا اضطرب! وانظر إلى السماء تمر عليها القرون تلو القرون ما تشققت ولا تبدلت ولا غيرها الدهر ولا أثر فيها الزمان، بل هي باقية ناصعة كأنها خلقت من ساعتها، فسبحان الله جل جلاله! فعلى طلاب العلم والأخيار دائماً أن يكونوا في مقام أليق بهم، فنحن أحوج ما نكون إلى التعرف إلى الله عز وجل، وسعادة الدنيا كلها بالمعرفة بالله، ومن عرف الله أحبه، ومن عرف الله هابه، ومن عرف الله طلبه ورغب فيه، وجد في الطلب بإقامة فرائض الله والبعد عن محارمه، والسعي بالصالحات والتشمير في الخيرات، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً.

فمن رزق الإيمان رزق حلاوته، وإن للإيمان حلاوة تنسي كل حلاوة، ومن خرج من الدنيا وقد لقي حلاوة الإيمان فقد أصاب سعادة الدنيا والآخرة، فالإيمان بالله كله موقوف على المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فمن عرف الله فهو بخير الدين والدنيا والآخرة، وما قص الله عز وجل قصص الأنبياء ولا ذكر هذا الهدى العظيم الذي كانوا عليه إلا بالمعرفة بالله سبحانه وتعالى.

فعلى طالب العلم أن يتفكر ويتدبر، وليس الأمر مخصوصاً على الزرع، بل كل شيء يجعل حاله من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، فإذا أحيا الله قلبه بذكره فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح له أبوب رحمته، كانوا يقولون: من أكثر من ذكر الله في قلبه وضع الله له المحبة بين الخلق، الذي يصبح دائماً في تفكر في عظمة الله عز وجل يتأذن الله له بالمحبة بين الناس، وأغفل الناس عن الله أبعدهم عن محبة الناس؛ لأن من أكثر من ذكر الله بقلبه أحبه الله، وإذا أحبه الله وضع له القبول بين عباده، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>