وظاهر العبارة التي ذكرها المصنف:(وإذا كان أبواه مسلمين)، مفهومها أنهما إذا كانا كافرين لا يستأذنهما.
والواقع أن هذا الحكم فيه تفصيل: فالوالدان يجب استئذانهما، سواءً كانا كافرَين أو مسلمَين، وهذا مبني على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه لما جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:(يا رسول الله! إني أقبلت من اليمن، أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) أخذ جمهور العلماء من هذا الحديث دليلاً على أن الكافر والمسلم من الوالدَين يستأذن؛ لأن القاعدة في الأصول:(أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فإنه قد أقبل من اليمن، وكانت اليمن لم تفتح بعد، ومن هنا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل كان أبواه مسلمين أو كافرين؟ بل ترك الاستفصال، ثم إن سر المسألة مبني على البر، والبر يستوي فيه الكافر مع المسلم، ولذلك قال تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[لقمان:١٥].
لكن استثنى العلماء منعَ الوالدين الكافرين لابنهما إذا كان ذلك على سبيل الكراهية للإسلام، والحنق على الإسلام، فإنه لا يعتد بمنعهما، فهذا هو الذي استثناه العلماء من استئذان الأبوَين الكافرَين، وإلا فالحكم أنه يجب استئذان الكافر والمسلم، وأجمع العلماء على أنه إذا كان أبواه كافرين شيخين كبيرين في السن، وهما بحاجة إليه أنه يجب عليه البقاء معهما، والإحسان إليهما، وذلك لعموم النصوص التي نصت على وجوب البر، فإنها نصوص قطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يقوى تخصيصها بالرأي والاجتهاد، ولذلك قال العلماء: إنه في هذه الحالة يجب عليه ويتعين أن يبدأ بالبر، وقد بينت النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البر أفضل من الجهاد، وذلك فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال -والحديث في الصحيحين-: (قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال عبد الله: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) فدل على أن بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه ما من قربة أعظم ولا أجل عند الله سبحانه وتعالى بعد توحيد الله والقيام بحقه من بر الوالدين، ولذلك قرنه الله مع التوحيد، فقال:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[النساء:٣٦]، وقال سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[الإسراء:٢٣] فقرن الله سبحانه وتعالى حق الوالدين بحقه، ونبه على فضل البر وما فيه من عظيم العاقبة الحسنة في الدين والدنيا والآخرة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة.