للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نصائح في الإخلاص للدعاة]

السؤال

ترد على الداعية والمتقلد للإمامة والخطابة وغيرها من أمور الدعوة بعض الموارد من الرياء والعجب، فكيف يدفع هذه الأمور ويحصل الإخلاص في عمله؟

الجواب

إن الله يبارك للداعية وللخطيب وللإمام ولكل متكلم بشرائع الإسلام متى ما أراد وجه الله جل جلاله، وابتغى ما عند الله، وتوجه بكليته إلى الله، ومن كان لله كان الله له، ومن عامل الله فتجارته رابحة، وأموره مستقيمة، وأحواله صالحة، ومن هذا الذي كان مع الله، فخذله ربه؟ ومن هذا الذي استقام لله، فضيعه ربه؟ وقد قال الله: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} [المائدة:١٢].

فالعبد إذا أقام لله أمره، وأخلص لله قلبا وقالباً، وأراد ما عند الله، وابتغى الدار الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، كان سعيه مشكورا، ً وإذا شكر الله السعي باركه، ووضع الخير فيه، فقليله كثير، ويسيره عظيم، وكم من عمل عظمته النية، فمن وطن نفسه على إرادة وجه الله جل جلاله، وابتغاء ما عند الله، فإنه سعيد بحق، سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، ففي الدنيا جنة للمخلصين الذين يريدون وجه الله رب العالمين، لا يمكن لأحد أن يحقق شرطها وأصلها إلا نال سعادتها وخيرها وبرها.

وإذا دخل هذه الجنة في الدنيا أدخله الله جنة الآخرة، يعيش فقيراً مرقع الثوب بالي الحال، ولكنه بالإخلاص عزيز كريم غني بالله سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الذي ينبغي أن يبني عليه العبد أموره كلها فضلا عن طالب العلم، فضلاً عن الداعية، فضلا عن غيره.

وماذا يريد الإنسان بالناس، هل أحْيَوا ميتاً؟ هل شفوا مريضاً؟ هل أطعموا بدون إذن الله جائعاً أو كسوا عارياً؟ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:١٩٦] فالذي يكون لله، فالله هو الولي وحده، والذي يكون لغير الله فلن يجد من دون الله ولياً ولن يجد له من دون الله نصيراً، طاب عيش المخلصين بإرادة وجه رب العالمين.

فماذا يريد الإنسان من الرياء؟ وَهَبْ أن أهل الأرض كلهم رضوا عنك ولم يرضَ عنك الله جل جلاله -لا قدر الله- فماذا يقدمون مما أخر الله منك؟ وماذا يؤخرون مما قدم الله لك؟ العبد الصالح يتوجه إلى الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أنه لا صلاح إلا بإرادة وجه الله، ولا يمكن لشيء في هذا العلم وهذا الدين أن يُنْظَر لصاحبه في جزائه وحسن عاقبته، إلا بعد أن ينظر في قلبه، وإرادة ربه.

وينتبه الإنسان إلى من يعامل، فإنه يعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويعامل من بيده خزائن السماوات والأرض، الذي بيده الخزائن التي لا تنفد، الرب الكريم الحليم العظيم جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن أراد أن يعرف المعاملة مع الله، فليعرف من هو الله، فيتعرف على الله بأسمائه وصفاته؛ لكي يرى عظيم الكرم والجود والإحسان والمنن والفضل والرعاية والعناية والكفاية، وكل ما تريد من خير الدين والدنيا والآخرة: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:٨٨] من الذي بيده ملكوت كل شيء؟ سبحانه لا إله إلا هو، فما الذي يريد الإنسان من الناس؟ هب أن الناس كلهم مجدوك، وهب أن الناس كلهم مدحوك، وهب أن الناس كلهم رفعوك، وهب أن الناس كلهم رفعوا وأخذوا وأعطوا، فماذا يغنون عنك من الله سبحانه وتعالى؟ تأمل كم من كلمات قلتها وأنت تريد رؤية الناظرين، وسماع المستمعين، فماذا أغنوا عنك من رب العالمين؟ لمّا مرضت التفت يميناً وشمالاً فما وجدت إلا الله جل جلاله، الذي أحاطك برحمته وبلطفه وبمنه وكرمه في ظلمة الليل، ولو كان الإنسان أعز من في الأرض غنى وقوة ويساراً، فربما يأتيه المرض في ظلمة الليل، فلا يسمع صوته إلا الله وحده لا شريك له.

فليعامل الإنسان الله سبحانه وتعالى ويذهب عنه الرياء، ويبعد عنه السمعة، فإذا قام خطيباً فليعلم أن مفاتيح قلوب الناس لا يمكن أن يعطيها الله إلا للمخلصين، وأن التأثير في قلوب العباد لا يمكن أن يكون بحلاوة الكلام، ولا بتنميق العبارات، ولا بتحسين الجمل، ولا بتكلف في الشكل ولا في الملبس، ولا بالهيئة، ولكنها أسرار بين العبد وبين الله المطلع على الضمائر، المطلع على السرائر، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

تستحي من الله حينما يرفعك على رءوس الناس لكي تخطب أو تعظ أو تحاضر، تستحي من الله أن ينظر في قلبك أن فيه غير الله جل جلاله، فمن الذي بوأك هذا المبوأ؟ ومن الذي أعطاك هذه النعمة؟ ومن الذي أحسن عليك بهذا الإحسان فصرت تتقدم تصلي بالناس؟ فتتذكر أن الله قدمك عليهم، وأن الله فضلك عليهم، وأن الله جعلهم يسمعون لقولك، وأن الله جعلهم يركعون بركعوك، ويسجدون بسجودك، فتستحي من الله جل جلاله.

أخطر شيء في هذا الوجود الإخلاص، والمسألة العظيمة التي من أجلها قامت السماوات والأرض هي الإخلاص، حتى إن أهل الخير لا يمكن أن يتنافسوا أو ينالوا خيراً إلا بقضية الإخلاص، هي المحك الخطير في الدين والدنيا والآخرة، فلا تتكلم ولا تعمل ولا تقدم ولا تؤخر إلا وأنت تريد ما عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت لله كان الله لك، ولا يخذل الله عبداً أخلص لوجهه وابتغى ما عنده، واعلم أن مدح الناس وثناء الناس وتعظيم الناس لا يغني عنك من الله شيئاً، ولا يغني عن الحقائق.

وقف رجل على الحسن البصري رحمه الله، وقال له: (عجز الزمان أن يأتي بمثلك، فقال: ويحك، ويحك ماذا تقول؟ أوعلمت ماذا أفعل حينما أغلق باب داري؟) يعني: تزكيني أني صالح وأنت لا تعرف سري وغيبي، هذا لا يعلمه إلا الله جل جلاله، فلا يعامل العبد إلا ربه، ولا يبتغي إلا ما عند الله سبحانه وتعالى، فإن مدح الناس وثناء الناس لا يغير في الحقائق.

والعبد المخلص أكره ما عنده مدح الناس، فليكن أكره ما عندك أن يأتي واحد ويقول لك: والله خطبتك نافعة، خطبتك مؤثرة، خف من هذا، فإن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، وأشفق على نفسك وقل له: يا أخي اتق الله، إذا كنت وعظتك وذكرتك بالله، فلا تقع بيني وبين آخرتي، ولا تأتِ تمدحني وتقطع لي عنقي: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ} [النجم:٣٢] وحده لا إله غيره، ولا رب سواه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢] بل يعرف العبد مقدار نفسه، ويشفق طلاب العلم على بعضهم.

تزكية العلماء والخطباء والأئمة ومدحهم وتمجيدهم وتضخيم أمورهم لا تغني عن العبد من الله شيئاً، ولنشفق على أهل الخير وأهل الصلاح فلا نقطع رقابهم، وليستح العبد من ربه، أن يأتي ينمق الخطب وينمق المحاضرات والدروس والمواعظ وهو يريد مدح الناس وثناءهم، فعليه أن يستحي من الله جل جلاله، إذا كان يريد الدنيا فسوق الدنيا واضحة، وإذا كان يريد الآخرة فليجعل نصب عينيه الموت ولقاء الله سبحانه وتعالى، وليجعل بين عينيه قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [المائدة:١١٩] هذا اليوم يوم لقاء الله سبحانه وتعالى.

والله ما استشعر عبد موقفه بين يدي الله إلا هانت عليه الدنيا وما فيها وأراد ما عند الله، وبالأخص الدعاة والهداة للناس، فتحضر الخطبة ولربما تقوم فتأتي تسأل الرجل بعد أن يخرج من المسجد: عن أي شيء كانت الخطبة؟ وإذا به لا يدري عن ماذا كانت، نسأل الله السلامة العافية.

وقد يكون هذا بسبب من الخطيب، وقد يكون بسبب من الناس، وقد يكون بسبب منهما، فإن الشهوات والمنكرات والمعاصي إذا كثرت عم بلاؤها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥] وقد يأتي الرجل كأخشع ما يكون ويحال بينه وبين التأثير بسبب ذنوب الناس.

لكن ليس هناك شيء يؤثر مثل نية الخطيب ونية طالب العلم، ونية الإمام ونية الواعظ؛ فلا تغتر بالناس، وليكن أكره ما عندك أن يمدحك أحد، وربما مدحك عن حسن نية فتأتي بالتي هي أحسن وتقول له: يا أخي! والله إني مشفق على نفسي، إني كثير الذنوب وعندي خطايا، فخف الله جل جلاله فيّ، ولا تمدحني ولا تمجدني.

ثم إن هذا المدح شهادة، فأي شخص تقول عنه: فلان أعلم الموجودين، فلان أفقه الموجودين، فلان أحسن الدعاة، فلان أحسن الخطباء، فلان أحسن القراء، تقف بين يدي الله عز وجل وتسأل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف:١٩] يخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يزيدون ولا ينقصون لتراها أمام عينيك، ويقول لك ربك: هذا الذي قلته لم قلته؟ من الذي نصبنا حكاماً على الناس نزكي من نزكي، فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه ويخاف من الله سبحانه وتعالى.

وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح والبر أن يعاملوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن تجارة الله لا تبور، وأن العبد إذا كان لله حفظه الله في نفسه، وحفظه الله في أهله وولده، وحفظه الله في طلابه، وحفظه الله في من يصلي معه، حتى إن بعض الأئمة إذا كان على صلاح وخير ترتاح للصلاة وراءه، وتجد من البركة التي يضعها الله في قراءته، ومن البركة التي يضعها الله في خطبه، ومن البركة التي يضعها الله عز وجل في مواعظه، وكل هذا بفضل الله، ثم بالسر الذي بين العبد وبين ربه.

وينبغي إذا كان يوم الجمعة وجئت تخطب أن تشفق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تحرم الأمة خير كلماتك ومواعظك بسبب الرياء، أو بسبب محبة المدح والثناء، ولنكف عن تمجيد الناس، ولنكف عن الغلو، ولنتقِ الله في أنفسنا، وليدعُ بعضنا لبعض، ونطّرح بين يدي الله عز وجل، ونسأل الله لنا التوفيق والسداد، والرعاية والعناية.

فإذا وجدت داعية أو خطيباً أو عالماً أو فقيها أو غيره ممن يشتغل بالدعوة، قلت: اللهم وفقه، اللهم سدده، اللهم خذ بيده لما يرضيك عنه، اللهم اجزه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فتدعو له بالخير، وهكذا كان السلف وهكذا كان الأئمة.

وتشفق عليه أيضاً، وتسأل له المعونة وتقول: اللهم وطنه للإخلاص، اللهم ثبته على الحق، فهذا هو الذي تواصى به الصالحون وتواصى به الأئمة واهتدى به المهتدون: إرادة وجه الله جل جلاله، ولذلك قال تعالى: {أَلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>