للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم البغل المتولد من الحمار والفرس]

يبقى النظر في شيء متولد من الحمار ومن غير الحمار وهو البغل؛ لأن الحيوانات تنقسم إلى قسمين: منها ما هو منتزع من ذكر وأنثى من جنسه، ومنها ما هو مختلط، يجتمع فيه ماء ذكر من نوع من الحيوان وأنثى من نوع آخر، وهذا الذي يحصل في البغال، فإنه ربما نزى الحمار على المهرة التي هي أنثى الفرس فأولدها بغلاً، ولذلك إذا خرج هذا البغل، فهنا يرد الإشكال: هل نعطيه حكم الأب، أم نقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر؟! قال بعض العلماء: الشرع يغلب جانب الأنثى؛ بدليل قوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) وهذا باب عظيم في الطهارات وفي اللحوم؛ لأنك إذا حكمت بكونه يتبع للأنثى فتقول: الفرس يجوز أكل لحمه -عند من يقول بجواز أكل لحمه- فإن تولد البغل من الحمار الأهلي والمهرة من الأفراس فيحكم بكونه طاهراً يجوز أكله، وإن قلت: إني أغلب جانب الأب أو الذكر فتقول بحرمته، لكن الصحيح: أن هذا الباب ينظر فيه إلا أصل آخر، وهو: (أنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح) وخاصة في باب المطعومات؛ لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا كان في الطعام جانب حظر وإباحة؛ غلب جانب الحظر؛ دليل ذلك حديث عدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك؛ فلا تأكل) مع أنه يحتمل أن الذي صاده كلبه فيحل له أكله ويحتمل أن الذي صاده كلاب غيره فلا يحل، فقال: لا تأكل.

وقال له: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه) فبين النبي صلى الله عليه وسلم تردد الحظر والإباحة، فالكلب إذا أرسلته وأكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فيحل، ويحتمل أنه أمسك لنفسه فلا يحل، فقال: (فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف -ليس بيقين- أن يكون إنما أمسك لنفسه) أخذ العلماء من هذا أصلاً عظيماً وهو: تقديم الحظر على الإباحة، واستنبطوا ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا) فجعلوا مرتبة الحظر أقوى من مرتبة الإباحة؛ ولذلك القاعدة تقول: (إذا اجتمع حاظر ومبيح فإنه يقدم الحاظر على المبيح)، وهنا عندنا البغل إن قلنا: نقدم فيه جانب الحظر فإنه يحرم وهو نجس، وإن قلنا: إنه يقدم فيه جانب الإباحة؛ فيحلّ ويكون سؤره طاهراً؛ إعمالاً للأصل الذي يقتضي طهارته، والمصنف رحمه الله ألحقه بما ذكرناه.

وقوله: (والبغل منه) لم يقل: (البغل) بإطلاق، ولكن قال: والبغل منه، أي: من الحمار الأهلي، فمفهوم ذلك أنه إذا كان من غيره وهو الحمار المتوحش فإنه لا يعتبر سؤره نجساً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>