[تقديم الفاضل على المفضول في الأذان]
قال رحمه الله تعالى: [فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما فيه].
بعد أن بين لك من الذي يؤذن، وما هي الأوصاف التي ينبغي أن تكون في المؤذن قال: (فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما)، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون الأوصاف المعتبرة للشيء، ثم يذكرون ازدحام الناس فيه كأن يقولوا: من صفة القاضي كذا وكذا، فإن تشاح في ذلك اثنان كل منهما أهل للقضاء (قُدِّم أفضلهما)، والفضل في اللغة: الزيادة، والمراد به في الشرع: الزيادة في الطاعة والخير، ويُعرف فضل الإنسان باستمساكه بالأصل، أي: حفظه للواجبات وبعده عن المحرمات، فإذا حصلت منه المحافظة على فرائض الله، والتقوى عن محارم الله عز وجل كان له أصل الفضل، فإذا أرادت أن تصفه بزيادة الفضل وصفته بالمحافظة على الطاعات.
فكذلك الأذان إن تشاحَّ فيه اثنان قُدِّم أفضلهما، فلو حفظ عن أحدهما أنه محافظ على التبكير للمسجد والثاني يتأخر قُدِّم الذي يبكر.
ولو عُرِف أن أحدهما طالب علم والثاني مؤذن يعرف الأوقات وفيه أوصاف المؤذن، لكنه ليس بطالب علم، ولا يحرص على طلب العلم، يقدم طالب العلم؛ لأن طلب العلم زيادة فضلٍ ونبل في الإنسان تؤهله لشرف المرتبة، فيُقَدَّم على من هو دونه، ولا يُقدَّم من هو دونه عليه.
وكذلك يكون الفضل بالمحافظة على الطاعات، كأن يُعرف أحدهما بصيام النوافل كصيام الإثنين والخميس، والثاني لا يصوم، فيقدم الذي يصوم على الذي لا يصوم، ويُنظر إلى الأوصاف الشرعية التي تدل على زيادة الخير في أحدهما؛ لأنهما إذا استويا في الأوصاف المعتبرة رُشِّح أحدهما على الآخر بزيادة الخير، فإن زيادة الخير تزيد في قدر الإنسان؛ والعكس بالعكس، كما قال الله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:١٢٤]، فدل على أن أهل المعاصي في صغار.
ومفهوم الآية أنه إذا كان أهل المعاصي يصيبهم الصغار، فأهل الطاعة يصيبهم العلو والفضل، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:١٧].
قال رحمه الله تعالى: [ثم أفضلهما في دينه وعقله].
أي: أفضلهما من ناحية السمت والوقار، وأفضلهما من جهة الدين.
فلو كانا طالبي علم، حافظين لكتاب الله، وكل واحد منهما محافظ على طاعته، وكلاهما على مرتبة واحدة في الدين، ولا يستطاع اختيار أحدهما ينظر إلى العقل، فإن من الناس من علمه أَكبر من عقله، ومنهم من عقله أكبر من علمه، ومنهم من علمه وعقله على كبر، فقد تجد العالم لكنه لا يتعقَّل في الأمور، ومنهم من عنده عقل وليس عنده علم، فتجد عقله أكبر من علمه، فإذا نزلت به النوازل، أو أحاطت به الكروب أحسن إدارتها، وأحسن التخلص منها، ومنهم من جمع الله له بين العقل والعلم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولذلك قالوا: من جُمِع له بين العقل والدين فقد أعطي النورين، كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:٣٥].
فالعقل نورٌ داخلي، والوحي نور خارجي، والإنسان يرى بنور داخلي ونور خارجي، فإذا كان الاثنان من ناحية الدين على مرتبة واحدة، ولكن أحدهما أعقل يتريث في الأمور ولا يتعجل، ويُعرف بسداد رأيه وصواب رشده، وأنه إنسان لا تستجره العواطف قُدّم؛ لأن العقل زيادة فضل، ويدل على حب الله للعبد، فإذا كمل عقله مع دينه فهذا نعمة من الله عز وجل تدل على إرادته الخير بهذا العبد، فيُقدَّم العاقل.
قال رحمه الله تعالى: [ثم من يختاره الجيران].
إذا كان كلاهما على دين وعقل، ولا تستطيع أن تفضل أحدهما من جهة الدين ولا من جهة العقل، فتقدم من يختاره الجيران؛ لأن الإنسان إذا كان محبوباً بين الناس في علمه أو أذانه أو ولايته الشرعية كان أدعى لقبول ذلك منه، فإذا كان الناس يحبونه ويختارونه ويرتاحون له، فهذه تزكية له، فلو قالوا: نحب فلاناً، فهذه تزكية خير كما في الحديث: (يا رسول الله! كيف أعلم أني محسن؟ قال: سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن فأنت محسن، وإن قالوا: إنك مسيء فأنت مسيء).
فالناس شهداء لله عز وجل في الأرض كما ثبت في حديث عمر في الصحيح، فإذا قال الجيران: نحب فلاناً ورشحوه قُدم، وتكون هذا تزكية زائدة على فضله ودينه وعقله.
قال رحمه الله تعالى: [ثم قرعة].
وهذا فعله بعض السلف من الصحابة رضوان الله عليهم، كما حكى بعض أهل العلم أن سعد بن أبي وقاص لما فتح إيوان كسرى تشاحّ الناس في الأذان كلٌ منهم يريد أن يؤذن، فأقرع بينهم سعد رضي الله عنهم وأرضاهم، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا محبين للخير، فكادوا أن يقتتلوا؛ إذ كلٌ منهم يريد أن يؤذن في ذلك المكان الذي أعز الله فيه الإسلام، فأحيا فيه الحنيفية وطمس فيه معالم الجاهلية، فتشاحّ الناس حتى كادوا أن يقتتلوا، فهدأهم سعد، ثم أقرع بينهم وأعطى الأذان لمن خرجت له القرعة.
والقرعة حلٌ شرعي يصار إليه عند تعذر الترشيح، فلو اجتمعت الأوصاف في الأشخاص لإمامة أو قضاء أو فتوى أو تعليم، واستووا في الفضل والصفات الشرعية يُقرع بينهم.
قالوا: والأصل في القرعة أنها اختيار من الله عز وجل، فلو كانوا كلُّهم في مرتبة واحدة وأُقرِع بينهم، فكأن الله اختار هذا الشخص؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى شاء أن يكون هذا الشخص دون غيره، مع أنهم كلهم في الفضل على سواء، فلا يضرنا أن تخرج القرعة على واحد منهم.
ثم قالوا أيضاً: إن القرعة ثبت اعتبارها في أصل الشرع، كما في قصة يونس بن متى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:١٤١] فهو لما كان في الفلك مع القوم، ولم تكن نجاتهم إلا بإلقاء واحدٍ منهم، فاقترعوا فخرجت على يونس من الله سبحانه وتعالى ابتلاءً ليونس، فدل على أن الله يختار، فوقع الخيار على يونس بالقرعة، ولذلك اعتبر العلماء القرعة من وسائل الإثبات في بعض المسائل، خاصة عند الازدحام، قد فعلها بعض السلف في الأذان فيُعتبر هذا أصلاً للفقهاء في التقديم بالقرعة، والقرعة تكون بوضع أوراق فيها أسماء هؤلاء المرشحين، ثم يختار الإمام أو يختار واحد من الحي ورقةً منها، فيخرج فيها اسم واحد منهم، فيقدم دون من شاحَّه من بقية المؤذنين.