[متى تثبت الشفعة ومتى تسقط]
قال رحمه الله: [وهي على الفور وقت علمه] (وهي) -أي: الشفعة- (على الفور) أي: لا يجوز للشريك أن يتأخر في طلب الشفعة، وهذا شرط من شروط ثبوت الشفعة، أنه بمجرد علمك أن شريكك قد باع تقول: أنا شافع، فبمجرد العلم تشفع، فإذا كنت في مكان بعيد عن أرضك، أو عن الموضع الذي فيه أرضك تشهد عدلين أنك شافع وتقول: اشهدا أني شافع، فإذا لم يطالب بها فوراً فقد سقط حقه.
مثال ذلك: لو أن اثنين كانا شريكين في أرض، فباع زيد نصيبه، فلما علم عمرو سكت، مثلاً: جاءه شخص عصراً وقال له: إن زيداً قد باع نصيبه فسكت، فلما جاءت صلاة المغرب قال: أريد أن أشفع، أو لما جاء من الغد قال: أريد أن أشفع نقول: سقط حقك؛ لأن الشفعة لا تثبت إلا إذا طالبت بها على الفور، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، ولذلك قضى به أئمة السلف، وممن قضى بذلك شريح الكندي رحمه الله قاضي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أربعة من الخلفاء الراشدين تولى هذا الإمام الجليل رحمه الله القضاء لهم، وكان يقول: الشفعة لمن واثبها، يعني: بادر وعجل بها.
ومفهوم ذلك: لا شفعة لمن لم يعجل بطلب الشفعة، ويروى هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يصح ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نبه على ذلك الإمام الحافظ الزيلعي رحمه الله في نصب الراية، والأقوى أنه من قول شريح وقضائه، أن الشفعة لمن بادر، وأجمع العلماء على ما هو منصوص عليه في كتب أهل العلم، ولا يعرف مخالف أن الشفعة معجلة، ولو قلنا: إن الشفعة يجوز تأخيرها لانفتح بسبب ذلك باب من الضرر لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، فيأتي شخص ويشتري من الشريك، فيسكت الشريك الآخر ويتركه حتى يبني الأرض، ثم بعد خمس سنوات أو ست يقول: أنا شافع، فهذا يفتح على الناس باباً عظيماً من الضرر.
ولذلك قال بعض العلماء: الشفعة ضعيفة تسقط بالأقل يعني: تسقط بأوهن الأشياء، فهي ثابتة صحيحة، لكن جعل الشرع سقوطها لأنها على خلاف الأصل، فتسقط بأوهن الأشياء، وهذه عبارة أكثر من واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، أن الشفعة ضعيفة وتسقط بأوهن الأشياء، وعلى هذا فلو تأخر عن المطالبة فهمنا من سكوته أنه راضٍ بدخول الشريك، ويكون إهمالاً منه وتقصيراً، ويسقط حقه بذلك في الشفاعة.
قال رحمه الله: [فإن لم يطلبها إذاً بلا عذرٍ بطلت] (فإذا لم يطلبها) يعني: لم يطلب الشفعة (إذاً) أي: إذا علم فالتنوين عوض عن جملة ولم يطالب بالشفعة وقت علمه سقط حقه.
قال رحمه الله: [بلا عذر] إذاً الشرط في إسقاط حق الشريك في مطالبته بالشفعة أن لا يكون عنده عذر، أما لو كان عنده عذر فإنه لا يسقط حقه؛ لأن المعذور معذور، وقد عذر الله عز وجل في حقوقه وعذر في حقوق عباده، فإذا كان عنده عذر فتأخر عن المطالبة لوجود هذا العذر فإنه حينئذٍ لا يسقط حقه، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى بعض المسائل التي تنبني على هذا.
قال رحمه الله: [وإن قال للمشتري: بعني أو صالحني، أو كذّب العدل، أو طلب أخذ البعض سقطت] تسقط الشفعة إما باللفظ الصريح أو بالشيء الضمني سواءً كان من الأقوال أو كان من الأفعال، فإذا كان هناك شريكان باع أحدهما وعلم الآخر فقال: لا أريد الشفعة، فهذا مسقط للشفعة، ويكون سقوطها هنا باللفظ الصريح: (لا أريد الشفعة) (لست بشافعٍ) (أبرأتك من الشفعة) (لا شفعة لي) كل هذا من الألفاظ الدالة على أنه ليس بشافع، فإذا تلفظ بلفظ صريح يدل على إسقاط حقه فلا إشكال في سقوط الشفعة، لكن هناك ألفاظ أو تصرفات تصدر من الشريك توجب سقوط الشفعة في حقه، فمثلاً: إذا قال للمشتري الجديد: (بعني) فمعناه أنه قد رضي بملكيته، كان المفروض أن يقول: أنا شافع، لكن حينما قال له: (بعني) فمعناه أنه قد اعترف بملكيته، ورضي بدخوله شريكاً له، فإذا قال له: بعني أثبت له اليد.
ولذلك هناك عبارات ليست صريحة في الدلالة على شيء، لكنها تتضمن الدلالة عليه، فأنت إذا جئت إلى رجلين مختصمين يقول أحدهما للآخر: أعطني حقي الذي هو ألف ريال، فقال له: يا أخي! أعطيتك الألف، فإذا قال: أعطيتك الألف اعترف أنه قد أخذ منه ألفاً، هو لم يقل: أعترف أن لك عندي ألفاً وإنما قال: أعطيتك الألف، فمعناه أنه قد أقر أن في ذمته ألفاً لهذا المدعي، ويدعي هو أنه قد ردها، فإذاً قد نستفيد من بعض الألفاظ الدلالة على غيرها.
فهو إذا قال له: بعني، دل على أنه قد رضي بكونه شريكاً له؛ لأنه لا يبيع إلا من يملك، ولا ملكية إلا إذا دخل شريكاً له بالعقار، ولا يدخل شريكاً له في العقار إلا إذا أسقط حقه في الشفعة، ولذلك يقول العلماء: إنه إذا قال للشريك: بعني، فقد سقط حقه في الشفعة.
قال: [أو صالحني] إذا قال له: صالحني، عدل عن حقه إلى المصالحة، وبناءً على ذلك يكون اعترافاً ضمنياً بإسقاط حقه في الشفعة.
قال: [أو كذّب العدل] جاءه رجل معروف بالصدق ومعروف أنه لا يكذب، أو يعرف أمانته واستقامته، والعدل: هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، والعدل الذي ترضى شهادته كما قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:٢٨٢] فالعدل هو الذي يرضى في الشهادة ويرضى في الأخبار، فلو جاءه رجل من قرابته يعرفه أميناً صادقاً لا يكذب، وقال له: شريكك باع نصيبه، فقال له: لا ما باع نصيبه، وسكت ولم يطالب بشفعته، فمعناه أنه قد بلغه خبر البيع فلم يطالب بحقه فسقطت الشفعة؛ لأنها على الفور، فلما لم يبادر بها يكون تكذيبه للعدل واقعاً في غير موقعه، كما لو رأى الشيء؛ لأن العادل يصدقه، وإذا قال له: إن فلاناً قد باع فمعنى ذلك أنه لا عذر له في تكذيب هذا البيع، ولا عذر له في المطالبة بالشفعة، فلما لم يكن عنده عذر في جميع ذلك سقط حقه في الشفعة، وحينئذٍ لو طالب بها بعد ذلك فإنه لا شفعة له.
قال: [أو طلب أخذ البعض سقطت] لو قال للمشتري الجديد أو الأجنبي الذي اشترى: هذه الألف متر التي اشتريتها أشتري منك نصفها، أو أنا شافع في نصفها، إذا قال: أشتري سقط حقه، إذا قال: أنا شافع في نصفها سقط حقه في الكل؛ لأنه لابد من أخذ الكل أو ترك الكل، فلا تتجزأ الشفعة ولا تتبعض.