[حكم المماطلة في أداء الحقوق للناس]
السؤال
من استدان مالاً وماطل في السداد، وتساهل، هل يعتبر غاصباً وآكلاً للمال بغير حق؟
الجواب
منع الناس حقوقهم والتساهل في رد الحقوق إلى أصحابها كبيرة من كبائر الذنوب، عواقبها وخيمة، ونهايتها موجعة أليمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الحالة بأنها ظلم، والمظلوم إذا دعا على من ظلمه فإن دعوته مستجابة ولو بعد حين، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه).
حتى لو أنه أخر راتبه أو منعه إياه مدة خمسة أشهر أو ستة أشهر فهذا ظلم، ويحاسب بين يدي الله ويسأل بين يدي الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يقول الله تبارك وتعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن أكن خصمه فقد خصمته، رجل أستأجر أجيراً فلم يوفه حقه) قال العلماء: ممكن أن يعطيه راتبه ولكن بعد شهر، فلم يوفه؛ لأنه قال: (لم يوفه) وهذا يدل على أنه ينبغي الوفاء؛ فإذا قال: أعطيك في نهاية الشهر، فإنه يعطيه في نهاية الشهر.
كذلك أيضاً إذا استدان وقال: أعطيك في نهاية الشهر، أو أعطيك بعد سنة، فإنه يجب عليه أن يفي إذا كان قادراً، أما إذا كان عاجزاً فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠] والتأخير والتوسعة على المديون من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبها تفرج الكربات، وبها تكون النفحات والرحمات من الله عز وجل، فالشخص إذا أعطيته ديناً، ووجدت أموره معسرة، وأنه محتاج إلى هذا المال، وأنه يحتاج أن تأخره وأن تنظره، فهذا مكياله أوفى عند الله عز وجل، بل قال بعض العلماء: الصدقة على المستدين أعظم من الصدقة على المحتاج.
فعندما ترى إنساناً مديوناً مكروباً في دينك، قد ضاقت عليه الأرض، وتأتيه في ظلمة الليل أو ضياء النهار وتقول: يا فلان مالي ومالك كالشيء الواحد، قد عفوت عنك، فهذا من أعظم الأعمال الصالحة عند الله عز وجل.
كان رجل يدين الناس ويقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق أن نتجاوز عن عبدنا، قد غفرت لعبدي) فغفر الله له وتجاوز عنه لما تجاوز عن عباده وخلقه؛ لأن الله رحيم ويحب من عباده الرحماء، ويرحم من عباده الرحماء.
والمشكلة اليوم دخول شياطين الإنس والجن، تأتي إلى شخص لك عليه دين، ويتأخر في السداد، فتجدهم يأتون ويقولون: لماذا لا تأخذ حقك؟ هذا يتلاعب بحقك، هذا كذا هذا كذا نزعت الرحمة من المسلمين إلا من رحم الله، لكن لو أنزل الإنسان نفسه منزلة هذا المديون ونظر في حاله وقدر ظروفه وقال: قد سامحتك، قد أسقطت عنك نصف الدين، قد أسقطت عنك بعض الدين؛ يرجو رحمة الله عز وجل، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ً: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:٣٠] فهذا من الإحسان، والنفوس مجبولة على محبة الأموال.
فالتوسعة على المديونين وعدم التضييق عليهم أمر مطلوب.
أما أن يكون قادراً على السداد ويمنعك حقك ويماطل، فبعضهم يقول: إنها شطارة في التجارة، وبعضهم يقول: إنها شطارة في الأموال أن يتأخر عن حقوقك، وأن يماطلك في حقوقك حتى يستفيد من المال، ولا يريد أن يدفع المال مباشرة! فهذا من الظلم، ولو دعا صاحب المال على هذا الشخص فإنها تستجاب دعوته؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) ودعوة المظلوم على الظالم مستجابة، ولذلك نجد بعض الناس الذين أعطاهم الله الأموال ويؤخرون الناس في السداد، تكون أمورهم منكدة منغصة، لا يأتون إلى باب إلا أقفله الله في وجوههم، ولا يسلكون طريقاً إلا عسر الله عليهم؛ لأن الله مكنهم من الخير فضيقوا على العباد مع قدرتهم أن يوسعوا على العباد.
وتجد الشخص الآخر إذا استدان من الناس يوفي لهم ويعطيهم، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ويتسلف من أجل أن يفي بوعده، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) والسمح إذا قضى: كما إذا قلت لك: أسددك في نهاية الشهر، فوجدت المال قبل نهاية الشهر، فآتي لأسددك وأقول لك: جزاك الله كل خير.
ولا أنتظر إلى نهاية الشهر، مع أن الذي بيني وبينك نهاية الشهر، فآتي وأقدر أن بيني وبينك التزاماً، لكني مع ذلك أقدم السداد، هذه من السماحة.
ومن السماحة أنه إذا استدان -مثلاً- ألفاً يزيد ويعطي عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم أحسنكم قضاءً) فينبغي على المستدين أن يقدر المعروف، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فلا يماطل ولا يؤخر، وإذا ماطل وأخر وظن أن ذلك يكثر ماله، فإن الله ينقص ماله، ويذهب البركة من ذلك المال، ومن أراد أن يجرب ذلك فليفعل.
فتأخير حقوق الناس مضرته عظيمة، يمنع خشوع الصلاة ويمنع رقة القلب، ويمنع بركة الرزق، ويوجب على الإنسان ويجلب عليه العواقب الوخيمة، وربما يكون المال الذي جمعه وأخره يريده لشيء فيمحق الله بركة ذلك الشيء، ولذلك ينبغي إنصاف الناس، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١] والعقود: الالتزامات التي بين المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) فإذا اشترط عليك الوفاء في نهاية الشهر فعليك أن توفّي له، خاصة الخدم والضعفاء والغرباء، فهؤلاء أمرهم أعظم، فإذا كان الإنسان يستغل ضعف صاحب الدين، أو ضعف الخادم، فيؤخر حقوقه، إذا قال له: في نهاية الشهر أعطيك المال، فإن نفسه مرهونة بالدين، هذا الراتب أو هذا الحق الذي للأجير أو الدائن إذا جاء الأجل ولم توفه، فإنه يصير ديناً عليك، وحتى ولو كان راتباً، فيصبح هذا الضعيف أو هذا الخادم أو هذه الخادمة أو هذا الأجير دائناً لك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نفس المؤمنة مرهونة بدينه) ولذلك تجد طالب علم بمجرد ما يدخل في الديون تتنكد حياته، وإذا كان أعبد الناس بمجرد ما يدخل في الديون يتنغص عيشه، الدين هم الليل ذل النهار، فيحرص الإنسان على أن لا يدخل في الدين، خاصة إذا كان قادراً، وخاصة إذا جاءه الأجير وقال: عندي ظروف فأريد راتبي وأريد حقي.
والأعظم أن يجمع بين السيئتين، تأخير الحقوق، وإذا طلب منه أن يقضيها أقام الدنيا وأقعدها وظن أن هذا من سوء الأدب، ويقول: كيف يقول: أعطني مالي؟! وكيف يقول: أعطني حقي؟! فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جذبه اليهودي بردائه حتى أثر في عنقه، وقال: (أعطني يا محمد فإني ما عهدتكم آل هاشم إلا مطلاً) أراد عمر أن يبطش به، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعه، فإن لصاحب الحق مقالة) فكانت سبباً في إسلام اليهودي، فهذه أمور ينبغي للمسلم أن يلتزم بها: وفاء الناس، وأداء حقوقهم وسدادها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يخلصنا من حقوق عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.