[حكم بيع الرهن والعربون]
قال رحمه الله: [وبعتك إن جئتني بكذا أو رضي زيد.
أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك.
لا يصح البيع].
[وبعتك إن جئتني بكذا].
وهذا كما ذكرنا أدخل شرطاً زائداً على مقتضى العقد، فهذا يعتبر من موجبات الغرر، ويكون فساده من جهة كونه تَضَمَّن شرطاً يوجب الغرر، وقلنا: إنه إذا تضمن عقد البيع ما يوجب الربا أو يوجب الغرر فإنه يوجب الفساد.
قال: [أو رضي زيد].
وهكذا إن رضي زيد فلا ندري أيرضى أو لا يرضى؟ فأصبح مما فيه غرر.
قال: [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك، لا يصح البيعُ].
يعطيه الرهن ويقول له: (إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك).
كأن يأتي شخص إلى بائع عنده سيارة أو عنده أرض.
إلخ، فيقول له: بكم هذه الأرض؟ قال: بمائة ألف، قال: أنا أريد أن أشتريها، قال له: أنا لا أضمن، قال: إذاً أعطيك رهناً على أنني أريد أن أشتريها، فسأذهب وأُحْضِر المال ثم تعطيني الرهن ونتم الصفقة، فإن لم أُحْضِر لك المال فالرهن لك، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الرهن لا يوضع إلا من أجل ضمان الحق في البيع المؤجل.
فإذا ملكت السلعة وعجزت عن السداد قام المالك الحقيقي ببيع الرهن وتسديد ماله، على ظاهر آية المداينة في آخر البقرة، فأصل الرهن للاستيثاق أن حقك يُضْمَن كبائع، فإذا جاء يقول لك: إنني أذهب وأُحْضِر المال فالبيع بيع معجل وليس بمؤجل، وليس على صورة الرهن الشرعي، فإن لم آتك بالنقد فالرهن لك، وأصبح الرهن يُعطى بدون مقابل، وبناءً على ذلك يكون من أكل المال بالباطل، قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، وبناءً على ذلك كأنه يأخذ هذا الرهن بدون مقابل.
فمثلاً: قال لك: هذا القلم قيمته عشرون، أو هذه الساعة قيمتها خمسون، تقول: أنا أرغب أن أشتريها، قال: أعطني الخمسين، قلت: ليست عندي الآن ولكن أذهب وأحضرها، قال: لا أضمن، فقلت: إذاً خذ هذا القلم رهناً حتى أحضر لك الخمسين، فإن لم أحضر الخمسين فالقلم لك، فأصبح يأخذ القلم بدون مقابل، وهذا شيء لا يجيزه الشرع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:٢٩]، هذا الرهن لقاء ماذا؟ ليس له مقابل، فأصبح يأكل مال أخيه بدون حق، والشرع لا يجيز هذا، ثم إنّ هذا يُربّي في نفوس المؤمنين الأنانية بالتعامل المادي.
فيصبح الشخص لا يتعامل إلا مادياً مع أخيه، فإذا قال لك أخوك: أحضر المال وجاءه ظرف أو جاءه شيء فإما أن تقيله أو تطالبه بأصل العقد الذي بينك وبينه، أمّا أن تأخذ منه شيئاً بدون حق فلا، ولك أن تقول له: أطالبك بإمضاء البيع فهذا من حقك؛ لأنه إذا اشترى منك وقال لك: سأحضر لك المال فقد أوجب البيع وافترقتما، فالبيع واجب والرهن ساقط تأثيره في حال العجز، فيبقى عقد الصفقة الأول -الذي هو البيع والشراء الذي تمّ بينك وبينه- ترفعه إلى القضاء وتطالبه بحقك، أمّا أن تأخذ الرهن بدون مقابل فهذا من أكل مال الناس بالباطل، ويدخل في هذا بيع العربون، وبيع العربون فيه قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، وربما يأتي إن شاء الله الكلام عليه.
والصحيح: أنه لا يجوز، وهو مذهب طائفة من السلف رحمهم الله؛ لأنه من أكل المال بالباطل، فإذا جئت تشتري سيارة ودفعت عربوناً ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف ثم عجزت عن دفع الباقي فالأصل الشرعي أن المالك البائع من حقّه أحد أمرين: إمّا أن يسامحك ويقبل العذر ويرّد لك ما قدّمت من العربون، وإمّا أن يطالبك بإمضاء البيع، يقول لك: البيع لازم، ومن حقه شرعاً أن يطالبك، فتأخذ الصفقة على ما أتممتها من بيع ثم تبيعها مرة ثانية، أمّا أن يأخذ البائع الخمسة آلاف أو العشرة آلاف والتي ربما لا يراها البعض شيئاً، ولكن تكون من كدّ الإنسان، فربما يكون المشتري قضى سنوات وعرق جبينه دهراً طويلاً ليحصل هذا المبلغ، ثم العربون إذا قلت بمشروعيته في مائة أو خمسين أو عشرين أو ألف فما تقول حين يكون بالملايين؟ لأنك إذا أجزت العربون تجيزه في جميع الصور؛ لأنه إذا أعطاه عربوناً بمليونين أو ثلاثة ملايين وأخذها البائع فبأي حق يأخذ هذه المبالغ الكبيرة التي لا موجب لها.
قد يقول قائل: فَوَّتَ السوق عليه، نقول: لم يفوته، إن شئت تقول له: خذ الصفقة وتلزمه بالدفع؛ لأن هذا من حقك شرعاً، فالبيع الأول تام ووجب.
أمّا أن تتّخذ العربون بديلاً فهذا من أكل المال بالباطل، ويصدق عليه بدون شك قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:٢٩]، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا في بيع الثمار: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك -مع أن الصفقة هنا لقاء شيء- فبم تستحل أكل ماله؟!!) فالعربون هذا -الخمسة آلاف والعشرة آلاف- لقاء أي شيء؟ إن قلت: فوّت عليّ السوق فحينئذٍ أمض الصفقة وطالبه أن يدفع لك المال كاملاً لا تَظْلِمه ولا تُظلم، ثم هو يتصرف؛ فلو جاءك وقال: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف وأعطاك عربوناً عشرة آلاف فإنّه ملزم شرعاً أن يتم الصفقة؛ لكن لو جاءك وقال: عندي ظروف أو كذا تقول له: أنا أيضاً عندي ظروف، فإن كانت ظروفك أنت تسمح لك أن تساعده ساعدته، وإن لم تسمح فحينئذٍ ليس لك من شأن في ظروفه، وأنت شرعاً تدفع الضرر عن نفسك بعقد شرعي صحيح، وهو الذي غَرَّر بنفسه؛ لأنه لو ربحت الصفقة لأخذها، كذلك إذا خسرت، وعلى هذا: يلزم بدفع المبلغ كاملاً ويكون العربون ساقطاً ومحسوباً من أصل القيمة، أو يجب ردّه إلى صاحبه إن لم يوجبا البيع ولم يلزمه بإمضائه.