والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك: أولاً: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعاً للإكراه.
ثانياً: أن المكرَه الذي أمر بالقتل يُقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعاً للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أَكرَه قاتلاً من هذا الوجه.
ثالثاً: أننا لو قلنا: إنه لا يُقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فساداً، فكل شخصٍ يريد أن يقتل شخصاً ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخصٍ آخر ويقول له: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، وحينئذٍ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده.
وأيضاً: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال:(إنه يقتص من الآمر والمأمور) قولٌ صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلاً أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيراً قوياً، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذٍ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصاً له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.