قوله:(ثم قد حل له كل شيء) وهذا يسمى: بالتحلل الثاني، فالحج له تحللان: تحلل أول، وتحلل ثان، أما التحلل الأول فللعلماء فيه تفصيل: فمنهم من يقول: التحلل الأول يقع بمجرد رميه لجمرة العقبة، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما:(إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم).
وقال بعض العلماء: إذا رمى أو حلق مع الرمي أو طاف فقد تحلل التحلل الأول.
والتحلل الثاني إن كان قد طاف.
فيقع تحلله بواحد من هذه الثلاث، وليس للنحر عند أصحاب هذا القول دخل، فلا يرون أن النحر مؤثر في التحلل، فإما أن يرمي ويحلق، وإما أن يرمي ويطوف، وعلى هذا قالوا: التحلل الأول يقع بالرمي مع الحلق، أو يقع بالرمي مع الطواف، وإذا رمى وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، هذا مذهب طائفة من العلماء، واختاره أئمة الشافعية والحنابلة رحمهم الله.
والفرق بين التحلل الأول والثاني فالعلماء متفقون كلهم ومجمعون على أنه إذا تحلل التحلل الأول أنه لا يحل له وطء النساء.
واختلفوا إذا تحلل التحلل الأول ما الذي يباح له بهذا التحلل؟ فقال جمع من العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء، ثم اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: يحل له كل شيء إلا وطء النساء، فيجوز له أن يقبل، ويجوز له أن يباشر، ويجوز له أن يعقد النكاح، ويجوز للمرأة أن تزوج -تنكح وتُنكح- ولكن لا يقع الوطء.
هذا الوجه الأول، واحتجوا بحديث صفية رضي الله عنها وهو ثابت في الصحيح:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منها يوم النحر ما يريد الرجل من امرأته، فقيل: يا رسول الله! إنها حائض؟ فقال: أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذنْ) قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منها ما يريد الرجل من امرأته، وهذا المراد به مقدمات الجماع وليس المراد به الجماع، ولكن الصحيح أنه يحل له كل شيء إلا النساء خاصة، وحديث السنن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء)، فإن هذا الحديث قد جود إسناده غير واحد من أهل العلم وهو يدل على أن مسألة النساء عامة، فتشمل مقدمات النكاح وتشمل كذلك الوطء.
هناك خلاف بالنسبة للقول الثاني في مسألة التحلل، قال بعض العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء وقتل الصيد، فأضافوا إلى النساء الصيد كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، فإذا تحلل التحلل الثاني حل له الجميع، والصحيح المذهب الأول، خاصة وأن السنة قوية في دلالتها على حلّ كل شيء إلا النساء، هذا بالنسبة للتحلل الأول والتحلل الثاني، ومن الأدلة الصريحة على أن التحلل ينقسم إلى هذين القسمين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب بعد رميه لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:(طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه -يعني: في الميقات-، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) فلما قالت: (لحرمه قبل أن يطوف بالبيت) دل على أن محظور الطيب يرتفع برميه عليه الصلاة والسلام لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، وأنه لا يلزم في التحلل الأول أن يطوف بالبيت لظاهر هذه السنة الصحيحة.