[مسألة: إن حلفه ظالم على شيء فنوى غيره]
يقول المصنف: [فإن حلفه ظالمٌ (ما لزيد عندك شيءٌ) وله عنده وديعة بمكة فنوى غيره، أو بما الذي، أو حلف ما زيد هاهنا ونوى غير مكانه، أو حلف على امرأته لا سرقت منه شيئاً فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل].
حلفه ظالمٌ ما لزيدٍ عنده شيءٌ، وكان الحلف على المال، فحلف أن زوجته طالق إن كان له عنده شيء، ويقصد في المدينة، أو في جدة فإنه ينفعه؛ لأن الذي نواه في قرارة قلبه وقصده أنه ليس له عنده شيءٌ في موضعٍ والحال كذلك، فإذاً بر في حلفه، ولا يقع عليه الطلاق، وهذا إذا كان مظلوماً، أو يقول: ما لزيدٍ عندي شيء، وقصد بما الذي، أي: الذي لزيد عندي شيءٌ، وحينئذٍ يستقيم اللفظ، ويكون باراً بحلفه؛ لأن الواقع أن لزيدٍ عنده شيئاً لكنه مظلوم، فحلف بهذه الصورة ليتخلص ويدفع المظلمة عنه.
لماذا فرق بين كونه ظالماً أو مظلوماً؟ قالوا: إذا كان مظلوماً فمقصود الشرع أن يدفع الظلم عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فمقصود الشرع دفع الظلم ورفعه عن الناس، ولا يجيز الشرع الظلم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) فإذا حلف لدفع الظلم عن نفسه فقد وافق مقصوده مقصود الشرع.
وقد قرر العلماء هذا الأصل كما أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه النفيس (الموافقات) وهو من أوائل العلماء وجهابذة أئمة الأصول الذين تكلموا على المقاصد والنيات، قال رحمه الله: (قصد الشرع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصد الشارع)، قصد الشرع من المكلف في جميع أموره الباطنة أن تكون موافقةً للشرع، فهو لما نوى أن يدفع الظلم عن نفسه بنية غير التي تلفظ به؛ وافق مقصود الشرع من إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذه التورية جائزة غير جائرة، ومشروعة غير ممنوعة، مأذونٌ بها شرعاً، لأنها محققة لمقاصد الشريعة، فوسع الله بها على عباده، وقد أفتى بها بعض العلماء رحمهم الله، وصاحب التورية قد تنفعه ولا تؤثر في عصمة زوجته، ولا يقع الطلاق؛ لأنه نوى غير ما تلفظ به في الظاهر، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وأشكل في هذه المسألة حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فدل على أن من حلف يميناً فإنه يقبل منه الظاهر ولا يقبل منه الباطن؛ لأنه على ما يصدقك عليه صاحبك، فدل على أن المسموع هو الذي عليه العمل وأن الذي وقعت عليه يمينه هو المعتبر، ولكن بين العلماء عدم التعارض وأن المقصود من هذه اليمين: اليمين في مقاطع الحقوق، وهي اليمين التي تكون في المظالم ويحلفها الإنسان في القضاء أو يحلفها في الخصومة والنزاع، ويعتقد أنه مصيبٌ فيما قال، وصائبٌ فيما ذكر، فحينئذٍ لا بد وأن تكون اليمين موافقة لما حلفه عليه القاضي؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب الناس بالأيمان، وأصبحت يمين القضاء لا يتوصل بها إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.
ومن هنا فرق العلماء في التورية بين أن يكون ظالماً وبين أن يكون مظلوماً، وفرقوا بين أن يكون محقاً وبين أن يكون مبطلاً، فقالوا: إذا نوى في قرارة قلبه غير الذي تلفظ به فيما إذا كان محقاً أو مظلوماً فإن ذلك ينفعه؛ لأنه بهذا الفعل احتال حيلة شرعية، وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على صحة الحيلة الشرعية، وأنه مأذونٌ بها شرعاً، قالوا: فلو بقي الحديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) على ظاهره لما استطاع المحق أن يصل إلى حقه، ولأمكن المبطل أن يصل إلى باطله؛ لأنه ألجأه إلى اليمين واضطره إليها من أجل أن يصل إلى الحرام، فمن هنا ضيق عليه وقيل: يكون مأذوناً له شرعاً أن يوسع على نفسه بأن ينوي غير ما تلفظ به ليدفع عن نفسه الظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فجعل الرجل يقول: من ماء بني فلان، أو بني فلان، ومراد النبي صلى عليه وسلم بقوله: (نحن من ماء) ما ذكر الله عز وجل: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:٦] وهذا يدل على أن الأمر به سعة، وأنه لا بأس بالتورية، وأنها جائزة.
[أو بما الذي] قال: امرأتي طالق ما لك عندي شيءٌ؛ لأنه إذا قال: ما لك عندي شيء أي الذي لك عندي شيء و (ما) بمعنى (الذي)، ومن فقه القاضي أنه لا يقبل من الخصم أن يقول لخصمه: ما لك عندي شيء؛ لأنه يحتمل أن يقول: ما لك عندي شيء، أي الذي لك عندي شيءٌ، وحينئذٍ تضيع حقوق الناس بهذه التورية فلابد أن يقول: ليس لك عندي شيءٌ، لأنه لا يستطيع أن يدخل في هذه الجملة تورية، وبناءً على ذلك لو قال له: بقيت لي عندك عشرة آلاف، قال: ما بقيت لك عندي عشرة آلاف، وهو ظالمٌ له بالعشرة آلاف، فقال له: احلف على طلاق زوجتك أنه ما بقي لي عندك شيء، فقال: زوجتي طالق ما لك عندي شيء، أي: العشرة الآلاف التي لك عندي هي لك عندي، فعلى هذا يكون المعنى صحيحاً، وما نواه في قرارة قلبه قد أصاب به، وتنفعه هذه التورية ولا تضره بشيء أبداً.
[أو حلف ما زيدٌ هاهنا ونوى غير مكانه] قال: امرأتي طالق ما زيد هاهنا، كان زيد مظلوماً؛ وهناك ظلم يريد أن يأخذه ليؤذيه أو يعرضه للحرام، أو مثلاً: هناك امرأة يعتدى عليها، فقال له: احلف أنها ليست في الدار، فحلف بطلاق زوجته أنها ليست في الدار وقصد امرأة غيرها، ينفعه ذلك لأنه يتوصل إلى إحقاق حقٍ وإبطال باطل، ودفع مظلمة عن مظلوم، وهذا موافق لنصوص الشرع، وبعض الأئمة -رحمهم الله- استعملوا شيئاً من التوريات في التخلص من الأذية والضرر.
ويسوغ ذلك إذا جاء شخص يستأذن للدخول عليك وأنت تعرف أن هذا الشخص جاء بمشكلة أو جاء في بلية أو فيه ضرر، فاستأذن؛ فلك أن تستعمل معه التورية، فإذا قال: فلان موجود؟ فيرد عليه الأهل: بقولهم: فلان خرج، ومرادهم أنك خرجت قبل ساعة، وكنت قد خرجت ذلك اليوم، لكن ما قالوا: لم يعد، بل قالوا: خرج إلى الصلاة، وأنت خرجت إلى الصلاة، فهذه تورية، أو يقول المجيب: غير موجود ويشير إلى الغرفة، يعني غير موجود في الغرفة، وكان إبراهيم النخعي إذا جاءه ضيفٌ ثقيل خط على الأرض دائرة، وكانت جاريته تجيب، وتضع أصبعها في الدائرة فتقول: ما هو فيها، يعني ليس في داخل الدائرة، وهو ليس داخل الدائرة بل خارج عنها، وهذه من توريات السلف رحمهم الله؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون في دخول الشخص ضرر عليه، إما أن يتسبب في قطيعة رحم، أو يكون مغتاباً نماماً، أو يكون عنده بلاء أو فتنة، فالمقصود أنك تريد أن تدفع الضرر عنك، أو أنت مرهق متعب، ومثله لا يرد، فيسوغ لك أن توري وإلا فمن حقك أن تمنعه من الدخول، وهذا حق من حقوقك، لكن ليس كل الناس يفهم هذا الحق.
وهنا ننبه أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم خاصة في مثل هذه القضايا، هل فلان موجود أو غير موجود؟ ومن الأمور التي ضيعها كثير من الناس إلا من رحم الله السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستئذان، وفيها رحمة من الله عز وجل على عباده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف) يعني: إذا قرعت الباب ثلاث مرات ولم يُجب أحد فيجب عليك أن تنصرف، فهذه هي السنة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو أن الناس طبقوا هذه السنة لارتاحوا من كثير من الإحراجات، يستأذن ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف؛ لأن الله أعطى صاحب الدار حقاً أن لا يخرج لمن جاءه، وإن كان من حق الزائر أن تكرمه، وأن تستقبله، لكن ربما جاء في وقت ليس من حقه أن يأتي فيه، وربما جاء وعندك ما هو أهم وأولى وأحق خاصة العلماء، والأئمة، والخطباء، ومن انشغل بمصالح المسلمين العامة، فهؤلاء ينبغي على من يزورهم أن يتقي الله فيهم، خاصة في الأوقات الحرجة قبل الدرس، أو قبل المحاضرة، حيث تكون وراءه أمة تريد أن تنتفع بعلمه، فيأتي أناس يجلسون معه ويضيعون عليه وقته، فهذا لا يجوز لما فيه من الإضاعة للوقت، ولما فيه من الإضرار والأذية، وقد حرم الله على الصحابة أن يبقوا بعد طعامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ارتبطت به الأمة، وكان بعض العلماء يقول: هذا الأصل مطرد في غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الموجود في النبي صلى الله عليه وسلم موجودٌ في غيره، فإن غيره من العلماء مبتلى بما ابتلي به عليه الصلاة والسلام، وإن كان هناك فرقٌ بين الاثنين، فربما كان العالم عنده محاضرة، أو كان عنده درس يفيد به الأمة فلا ينبغي أن يؤذى ويحرج بمثل هذه التوريات؛ لأنه إذا أحرج بهذه التوريات ثم خرج ورآه من وري له -خاصة إذا كان من الجهال- ظن أن أهله يكذبون، وظن أنه كذب، وحينئذٍ يقع في سوء الظن، ويقع في التهمة، وهو الذي أحرج نفسه، فلذلك ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه، هذا بالنسبة للخاصة وكذا للعامة، فإذا علمت أن أخاك له أوقات يُزار فيها تخيرت هذه الأوقات، وأخذت بالسنة، والله تعالى يقول: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:٢٨] ليس هناك أبلغ ولا أكمل من كلام الله جل وعلا، وشهد الله من فوق سبع سماوات؛ أنك إذا اتقيت الله وانصرفت فإنه أزكى لك، وكان بعض العلماء يقول: جربت ذلك فوجدت الزكاة، حتى أني استحب في بعض الأحيان أن آتي للشخص وأستأذن عليه ويقول لي: لا أستطيع، لأني أبحث عن هذه الزكاة، وأبحث عن هذا الخير الذي شهد الله عز وجل به من فوق سبع سماوات: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:٢٨]، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة.
وعلى المسلم أن يحرص على مثل هذا لأنها تترتب عليها حقوق وأمور، فعليه أن لا يكون مؤذياً لإخوانه المسلمين وأن لا يحيجهم لمثل هذه التوريات في الزيارات، وكذلك في الخصومات، فربما يسأل الشخص أخاه عن أمرٍ ما، فيخبره أخوه بالأمر، فيشك في خبره، ويقول له: احلف بطلاق زوجتك، فلا يجوز أن يحرج الناس في