حد الحرابة على من لم يصب نفساً ولا مالاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى البلد].
تقدم بيان عقوبة النفي، وبينا مذاهب العلماء رحمهم الله فيها، والأصل في النفي التغريب والإبعاد، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة النفي، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بنفي أهل الحرابة أن يطلبهم الإمام فلا يتركهم يأوون إلى بلد، كلما استقروا في مكان طلبهم حتى لا يكون لهم قرار في الأرض، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم أجمعين.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالنفي الحبس، وأنه يحبسهم الإمام، ثم اختلفوا على وجهين: فمنهم من قال: يحبسهم في بلد غير الموضع الذي كانت فيه الحرابة، فيبعدهم عن بلادهم مسافة القصر كما يختاره المالكية، ومنهم من قال: يحبسهم حيث شاء، وهذا اختيار الحنفية رحمة الله على الجميع.
والأصل أن النفي عقوبة شرعية، جاءت على قسمين في الحدود والجنايات والجرائم: القسم الأول: النفي الذي هو مقدر ومنصوص عليه كحد من الحدود.
والقسم الثاني: النفي الذي يقع عقوبة تعزيرية، فنفي الحرابة من النفي الذي هو حد من حدود الله عز وجل، وإذا تعين فليس للحاكم ولا لأحد أن يسقطه؛ لأنه من العقوبة، وهذا النفي يكون في حد الحرابة واجباً، ويكون أيضاًً في حد الزنا واجباً، والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن النفي والتغريب ثابت في حق الزاني البكر ذكراً كان أو أنثى؛ وفي حديث عبادة في الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (تغريب عام) أثبت النفي.
ولكن نفي الزنا يختلف عن نفي الحرابة، فإن نفي الزنا جاء فيه التحديد في المدة، وأما نفي الحرابة فلم يأت فيه تحديد بمدة، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم قال: يقاس حد الحرابة على حد الزنا، فيطلبهم الإمام وينفيهم سنة كاملة، ومن أهل العلم من قال: يطلبهم ويتابعهم ويؤذيهم ويضر بهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل؛ لأن النص جاء مطلقاً.
وأقوى القولين أن النفي في حد الحرابة لا حد له، وأنه غير مقدر بسنة ولا يمكن فيه القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حد عقوبة الزنا ولم يحد النص الشرعي الوارد في كتاب الله عز وجل حد الحرابة.
وبناءً على ذلك: تبقى هذه العقوبة إلى صلاح المحاربين، فإن تابوا وأصلحوا ورجعوا إلى الله رفعت عنهم العقوبة، وإلا بقي طلب السلطان لهم حتى يتمكن منهم.
ومن أهل العلم من قال: النفي أن يبعدوا إلى ديار الكفر، وهذا قول أنس بن مالك في طائفة من السلف في تفسير الآية الكريمة عنه رضي الله عنه.
والصحيح أنهم لا يغربون إلى بلاد الكفر؛ لأن هذا أعظم وأشد بلاءً، والأشبه فيه أنه يحتمل أن أنساً رضي الله عنه نزع إلى هذا القول؛ لأن هناك قولاً أن المحاربين في الأصل مرتدون، ومن هنا ينفون عن بلاد المسلمين، بمعنى أنهم يبعدون إلى من هو مثلهم من الكفار، وحينئذٍ يستقيم هذا القول مع الأصول، وإلا لا يمكن أن نقول: إن مسلماً ينفى إلى بلاد الكفر؛ لأنه ربما ارتد -والعياذ بالله- عن دينه، أو على الأقل يكون فيه الفساد أكثر.
والذي عليه العمل عند العلماء رحمهم الله أن آية المحاربين نزلت في المسلمين، وأن قضية العرنيين كانت صورة من صور الحرابة لا تقتضي تخصيص الحكم بها، والقاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حتى ولو كانت سبباً لنزول الآية الكريمة.
والحاصل: أن النفي يفوض فيه الأمر إلى السلطان والقاضي والحاكم، فإن رأى أن المصلحة أن يسجنهم بأن قبض عليهم وأخذهم وأمر بسجنهم فله ذلك؛ لأنه مفوض للنظر في مصالح المسلمين، وإن رأى أن المصلحة أن يطلبهم فيزعجهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل فله ذلك، ومن هنا تختلف أحوال وصور الحرابة، فيعطى لكل صورة ما يناسبها.
وقد بين المصنف رحمه الله أن النفي عقوبة، وهذه العقوبة هي الثالثة، وقد نص الله عز وجل عليها بقوله في آية الحرابة: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:٣٣]، وعلى هذا النص قلنا: إن الصحيح أنه لا يتقدر بمدة معينة؛ لأن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لم يحدا هذا النفي حداً معيناً.