[مسألة في تغسيل ذوي الأمراض المعدية]
السؤال
أشكلت علي مسألة، وهي ترك غسل من به جدري أو مرضٌ يخاف انتقال العدوى من الميت إلى المغسل وفي الحديث حديث (لا عدوى ولا طيرة) أثابكم الله.
الجواب
مسألة العدوى وانتقال العدوى هذه فيها نصوص تكلم العلماء رحمهم الله عليها، وظن أنها متعارضة، وإن كان ظاهرها يوهم التعارض، فالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة) وصحت عنه الأحاديث بإثبات العدوى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال -كما في الصحيح-: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإن وقع بأرضٍ فلا تخرجوا منها) وقال أيضاً: (فر من المجذوم فرارك من الأسد).
فللعلماء في هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض أوجه: منهم من يقول: العدوى منفية، ويستثنى من ذلك المجذوم والطاعون؛ لأن التعارض ليس من كل وجه، فيقولون: تنتقل العدوى في الأمراض التي فيها عدوى، ويكون المجذوم والطاعون أصلين وما مثلهما ملتحقٌ بهما، فالمجذوم في الجلد والطاعون في داخل البدن، فكأنه ذكر أصل الأمراض المعدية الظاهرة، والأمراض المعدية الباطنة.
وهذا هو أقوى الأقوال جمعاً بين النصين، ويكون قوله: (لا عدوى)، أي: أنها لا تضر بنفسها كما كانت العرب تظن وتعتقد في الجاهلية أن العدوى بذاتها مضرة، ويُغْفِلون مسبب الأسباب ورب الأرباب سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل هو الذي سبب كونها معدية، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد بقوله: (فمن أعدى الأول؟) فكأنه يقول لهم: لو كانت العدوى بذاتها لكانت أشبه بالأمور الطبيعية، فلا إله والحياة طبيعة؛ لكنه قال: (من أعدى الأول؟) أثبت أن الأول به عدوى، وأن العدوى قد وضعها الله عز وجل، ولم ينكر عليهم دخول الإبل المريضة على الإبل الصحيحة وعدواها، وقد قال: (لا يورد ممرضٌ على مصح).
فإذاً: كأن الحديث ليس على ظاهره: (لا عدوى)، فليس المعنى أنها لا عدوى بالكلية، والنفي من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون على ظاهره في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كاملاً، وليس المراد: النفي الكامل من كل وجه الذي يقتضي نفي صحة الإيمان والحكم بالكفر.
فإذاً: النفي يكون مسلطاً على العموم، ويراد به أمرٌ معين يقصده عليه الصلاة والسلام لاعتقاد ونحوه، فيكون قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: لا تظنوا أن العدوى بذاتها تؤثر، وهذا الصحيح؛ فإن الناس في العدوى على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول يقول: لا عدوى بالكلية، وينفيها كليةً، ويخالف الحس والواقع الذي يشهد بوجودها.
ومنهم من يقول: العدوى ثابتة وهي بنفسها تضر، كما كان عليه أهل الجاهلية.
وجاء الشرع وسطاً بين الأمرين، فقال: العدوى موجودة؛ ولكن لا تضر بنفسها، فتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن الحس شاهدٌ لانتقال العدوى؛ ولذلك قال: (لا يورد ممرض على مصح) وعلى هذا يكون الأمر في قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: اعتقاد أن العدوى تؤثر بنفسها.
ولذلك ترى الرجل من قوة إيمانه ربما ورد على المريض -وهو قوي اليقين بالله سبحانه وتعالى- رغم أن مرضه معدٍ ولا ينتقل إليه، والعكس: أنه قد ينتقل من إنسان متحفظ خائف يتعاطى الأسباب، ومع ذلك ينقل الله إليه المرض، وقد أشار الله إلى هذا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:٢٤٣] قال الله لهم: (موتوا) لأنهم ظنوا أن الخروج من أرض الوباء نجاة، وأنهم يسلمون من الهلاك بالسبب نفسه، وهذه العقيدة يهدمها دليل الكتاب والسنة، وهي الغلو في الأسباب، والإسلام وسط يقرر الأسباب لكن يعطيها حقها دون إفراط ودون تفريط.
فأنت تقول: العدوى مضرة وموجودة وثابتة، والحس شاهد، والله سبحانه وتعالى قد جعل الأسباب والمسببات، وسبحان من قدر وحكم وعدل، وهو أعلم وأحكم سبحانه، لكن لا نغلو في هذا الشيء.
ومن هنا ترى أن بعض الذين يغلون في العدوى -كبعض الأطباء- يبالغ فيها حتى يعتقد أنه لو دخل إنسان صحيح على إنسان مريض فإنه سيصاب بالعدوى لزاماً، ويُغفل قضية العقيدة، وهو أنه مهما كان الأمر ومهما كان السبب فإن لله عز وجل قدرة تفوق هذا الأمر كله؛ ولذلك قال الله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].
فالنار لو ألقي فيها الحي احترق وصار فحماً ورماداً، فقلبها الله لإبراهيم برداً وجعل بردها سلاماً، ولم يجعل بردها هلاكاً؛ ولذلك قال بعض العلماء: لو قال الله: (برداً) لأهلكته من البرد، ولكن الله سبحانه قال: (بَرْدًا وَسَلامًا).
فالمقصود أن نكون وسطاً، ولا نقول لا عدوى بالكلية، ولا نبالغ في العدوى، فتجد الإنسان إذا دخل على صاحب مرض معد، ربما دخل والخوف يرجف في قلبه، وتجد عنده غلو في مثل هذه الأمور كما هو شأن بعض الأطباء أصلحهم الله، حتى يصير طبه وبالاً عليه، ولا تكون عنده العقيدة القوية في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ينبه العلماء على أنه لا ينبغي المبالغة في الأسباب.
انظر الآن إلى أهل البادية: ربما جاء الرجل منهم على الأرض، وتجد الأرض مليئة بالتراب، والماء مليء بالتراب، وفيه من النتن ما فيه، ومع ذلك يشربه متوكلاً على الله معتمداً عليه ولا يضره، وتجد الرجل في الحضر، والماء نقي وفيه من وسائل المحافظة ما الله به عليم، ومع ذلك تجده خائفاً من كثرة ما يقولون في العدوى، حتى بالغوا في الأشياء وأصبح الإنسان لا يأمن في شيء يأكله أو يشربه، وهذا هو المحظور.
المحظور أن يبالغ في الأسباب وتعد أنها هي المعوّل عليها، وأنها هي المؤثرة وهذا لا ينبغي، بل ينبغي ربط قلوب الناس بالله سبحانه وتعالى.
فالمريض مرضاً جدرياً أو معدياً إذا قلنا للحي: اغسله.
يقول العلماء: تعارضت مصلحتان: مصلحة حيٍ ومصلحة ميت، فمصلحة الميت بتغسيله، ومصلحة الحي بسلامته من ضرره، فإن قلنا له: اغسله.
تعرض للضرر في الغالب، والغالب كالمحقق، والله تعبدنا بغلبة الظن، فقال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:١٠] فغالب الظن علم.
ونحن بغالب ظننا بالاستقراء والتجربة أنه لو دخل ابتلي؛ فحينئذٍ نبني على هذا الغالب ونقول: فلو غسله، فقد حصلنا مصلحة الميت وفوتنا مصلحة الحي، فقالوا: ننظر في مصلحة الحي، فلو قلنا له: ييممه؛ فإنه يسلم من ضرر تغسيله؛ لأنه ربما علق به ما يؤدي به إلى الضرر، فينتقل إلى التيمم؛ لأن تغسيل الميت له بدل، وفوات روح الحي أو تعرضه للمرض المعدي لا بدل له، والقاعدة: أنه إذا تعارضت مصلحتان، مصلحة لها بدل ممكن أن تحقق به، ومصلحة لا بدل لها، دفعت المصلحة التي لا بدل لها بالمصلحة التي لها بدل.
فنقول: ييممه؛ لأن التيمم بدل عن الغسل، وكما أن الذي لا يمكن غسله كالمحروق نظرنا فيه إلى مصلحة الميت، وكذلك أيضاً من باب أولى وأحرى أن ينتقل المرض إلى الحي كالأمراض الجلدية المعدية، وكذلك أيضاً الأمراض الوبائية التي تكون في أجهزة الإنسان، كل ذلك مما يشرع فيه أن ينتقل إلى التيمم، لكن إذا وجدت وسائل الحفظ فيجب تغسيله مع تعاطي هذه الأسباب، والله تعالى أعلم.