الحالة الأولى: إذا تحقق الرجل من زنا زوجته فيجب عليه أن يلاعن إذا ترتب على هذا الزنا حمل وولد، وقطع بأن هذا الولد ليس بولده، مثلاً لأنه لم يجامعها، أو مثلاً حدث الحمل من هذا الزنا فتركها بعد زناها وتحقق أن هذا الحمل من حمل الزنا وأنه ليس بولده، فحينئذٍ إذا لم يستطع أن يتخلى عن هذا الحمل إلا باللعان بحيث يتأكد أنه لو سكت عن هذه الجريمة سيبقى الولد ينسب له، وسيكون هذا الولد شريكاً لأولاده في الميراث ويستحل النظر إلى من لا يجوز النظر إليهن، وكذلك أولاد أولاده، وما يتبع ذلك من تبعات، قال العلماء: يجب عليه أن يلاعن، لكن لو أمكنه أن يتخلص من هذا الولد مثل أن تعترف له بالزنا بعد وضعها الولد، فأمكنه أن يأخذ الولد ويجعله لقيطاً فيخرجه إلى سابلة أو إلى طريق ويضع معه مالاً ليأخذه أحد الناس، ولم يحصل ضرر على فراشه، ولم ينسب الولد إليه، فإذا انعدم عنه الضرر فحينئذٍ إن شاء سترها وهذا أفضل وأعظم أجراً عند الله عز وجل؛ لأن الستر في الزنا مندوبٌ إليه شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشهود -ولو كانوا أربعة- إذا رءوا الرجل يزني فالأفضل لهم أن يستروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه أنه جاءه ماعز بن مالك رضي الله عنه وهو جالسٌ في المسجد، وقال:(يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم أتاه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، فكرر عليه أربع مرات.
وجه الدلالة: أن ماعزاً اعترف وأقر ومع ذلك صرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يستر نفسه، وأن يراجع نفسه في هذا، وأمره أن يتوب لعل الله أن يتوب عليه، ولذلك لما أقيم عليه الحد وفرّ، قال عليه الصلاة والسلام:(هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه)، فهذا يدل على رحمة الله عز وجل بعباده، وهذا أمر أجمع عليه العلماء أن الأفضل أن يستر على الزاني زناه، حتى الشخص لو وقع -والعياذ بالله- في الجريمة، وأراد أن يعترف؛ فبالإجماع أنه يرغب في ستر نفسه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضية ماعز والمرأة التي اعترفت بالزنا قام على المنبر وقال:(أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله).
فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، لكن إذا كان هناك ضرر مثلما ذكرنا: أنه لو سكت وستر عليه فمعنى ذلك أن فراشه يلوث، وأنه يحصل عليه الضرر، فلا إشكال حينئذٍ في كونه يجب عليه أن يدفع عن نفسه الضرر حتى لا ينسب الولد إليه.
ولوجوب الملاعنة جانبان: الأول: أن يتحقق من زناها.
الثاني: ألا يمكنه دفع الضرر المترتب على زناها، وهو الولد، فحينئذٍ يجب عليه أن يلاعن، وإذا أمكنه دفع ضرر الولد بإخراجه عنه وعن فراشه ودفع بلائه عنه.
فالأفضل أن يستر المرأة، لكن هل يبقي المرأة عنده أم يسرحها؟ هذا فيه تفصيل: فالمرأة التي وقعت في الحرام ثم تابت توبةً نصوحاً، وظهرت الدلائل والقرائن على أنها تائبة إلى الله عز وجل، وأنها كارهة لهذا الأمر، فمذهب طائفة من العلماء أنه يشرع له أن يسترها وأن يضمها إليه، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه لو طلقها قد تقع في الزنا، ويفسد حالها أكثر، فيضمها إليه وخاصةً إذا كانت قريبة أو نحو ذلك.
وأما إذا خشي أنها تكذب في توبتها أو لم يظهر له الدليل على صدق توبتها فلا يجوز له أن يبقيها؛ لأن هذا يعرض فراشه ونسبه للحرام، ويؤثر عليه وعلى ذريته ونسبه، فلا يجوز أن يبقي مثل هذه، ويجوز له شرعاً إذا ثبت أنها زانية أن يضيق عليها حتى تدفع له المهر ويخالعها خلعاً شرعياً؛ لأنه إذا أتت بفاحشة مبينة فمن حق الزوج أن يضيق عليها حتى ترد له مهره؛ لأنها خانت عشرته، وأفسدت عليه فراشه، ويكفيه ما بلي به من العذاب، وحينئذٍ يأخذ حقه من المهر لعل الله أن يعوضه خيراً منها، ولا يجوز له إذا علم أنها زانية أنه يبقيها.
ويشكل على هذا حديث:(إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فأمره أن يمسكها)، هذا الحديث -أولاً- ضعيف الإسناد، ضعفه العلماء رحمهم الله، وممن أشار إلى ضعفه الإمام الجوزي رحمه الله في كتاب: العلل المتناهية في بيان الأحاديث الواهية، وبيّن أنه حديث موضوع، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وعلى فرض تحسينه يجاب عنه بأجوبة، منها: إن قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس)، ليس المراد به الزنا، وإنما المراد ما كان في أعراف الجاهلية بما يسمى: بالأخدان، فكانت المرأة لها عشيق وعشير يقبلها ويلمسها ولكن دون أن يزني بها، كما يقع الآن في أعراف الجاهلية المعاصرة عند الكفار أن المرأة المتزوجة يكون لها صديق أو لها خدن، وهذا الذي عناه الله بقوله:{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}[النساء:٢٥]، فهذا الخدن قد يستمتع من المرأة بما دون الفرج، فقوله: ترد يد لامس، أي: أنها يستمع بها بما دون الفرج، وهذا الجواب اختاره غير واحدٍ ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، وعلى كل حال، فقد دلت النصوص على أنه لا يجوز أن يمسك بعصمة المرأة الزانية خاصةً إذا لم تتب من زناها؛ لأن الله يقول:{الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:٣]، فلا يجوز للرجل أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه ينشر الفساد، ويعين على الفساد، والشريعة ما جاءت بالمعونة على الفساد، ولا شك أن الرجل إذا ضعف في مثل هذه الأمور كان ديّوثاً -والعياذ بالله- يقر الحرام في أهله، فعليه لعنة الله عز وجل، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، إنما يشرع الستر إذا كانت المرأة معروفة بالمحافظة وحصل الزلل منها، فكل حالة تدرس على حدة، ويرجع فيها إلى أهل العلم، ففي بعض الأحوال يكون الرجل متساهلاً في فراش المرأة ويغيب عنها الشهور فتقع في الحرام بسبب الزوج، وقد تكون هناك أمور مهيأة مثل تساهله في اختلاط أقاربه بها واحتكاكهم بها ونحو ذلك، وعلى كل حال فالأصل الشرعي يقتضي أنه يجب أن نحافظ على الفراش، وهذه هي الحالة الأولى التي يجب فيها اللعان.