[الركن الأول: القيام]
قال رحمه الله تعالى: [أركانها: القيام].
القيام ضد القعود، يقال: قَام إذا انْتَصَب عوده، أي: استَتَم.
وقوله: [القيام]، أي: أول ركنٌ من أركان الصلاة القيام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:٦]، وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).
هذه النصوص دلت على وجوب القيام ولزومه على سبيل الركنية والفرض، ولذلك ذهب إلى هذا الحكم جماهير أهل العلم رحمةُ الله عليهم، لكنهم قالوا: الصلاة لا تخلو من حالتين: إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضةً وصلى جالساً مع القدرة على القيام بطلت صلاته؛ لأنه لم يُصلِّ كما أمره الله بالقيام، لكن لو كان في نفلٍ صحَّ له أن يصلي جالساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وهذا إنما هو في النفل.
والظاهرية حملوا قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) على الفريضة بالنسبة للمعذور، وقولهم مردود؛ لأننا لو حملنا هذا الحديث على الفريضة بالنسبة للمعذور لردت نصوص الشريعة التي تدل على أن كل مريضٍ ومعذورٍ أجره كامل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)، فحينئذٍ بتناقض النصوص، فدلّ هذا الحديث على صرف عموم الحديث الذي معنا عن ظاهره، وأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) النافلة دون الفريضة، ووجدنا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يُصلِّي على دابته غير المكتوبة.
ومن هنا قلنا: إنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، بدليل أنه في السفر يصلي على الدابة حيثما توجهت، وهذا في النافلة دون الفريضة.
وعليه فيلزمك القيام لصحة الصلاة المفروضة، لكن بشرط أن توجد القدرة، وذلك لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦]، فالعاجز عن القيام معذور.
وقد أثبت المصنف أن القيام مع القدرة ركن.
وأما ضابط القيام فقالوا: الضابط في القيام أن لا تصل كفَّاك إلى ركبتيك، فلو انحنيت بحيث تصل الكفان إلى الركبتين فقد خرجت عن كونك قائماً إلى كونك راكعاً ومنحنياً.
ويتفرع على هذا مسائل: المسألة الأولى: لو أن إنساناً يكون جالساً فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقوم فيستعجل فيكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يستتم قيامه، فلا تنعقد تكبيرة الإحرام؛ لأن من شروط انعقادها أن يكون قائماً كما أمر الله عز وجل، فإذا كان أثناء قيامه وانتصابه رفع يديه وكبّر ولم يستتم، بحيث أمكن لليدين أن تنال الركبتين، وهو الانحناء المؤثِّر، فهذا لا يُعتد بتكبيره؛ لأن هذا الركن -وهو تكبيرة الإحرام- يُشترط فيه أن يكون في حال القيام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).
فدل على أن القيام يسبق التكبير، ومن فعل هذا الفعل فقد سبق تكبيره القيام، فلم يصلِّ كما أمره الله.
المسألة الثانية: المعذور الذي لا يستطيع القيام يصلي قاعداً، وهيئة القعود تختلف، فبعض الأحيان لا يستطيع أن يصلي قاعداً إلا على علو ونَشَز، كأن يجلس على دكةً أو سرير أو كرسي، فهذا الجلوس ينبغي أن يُفَصَّل فيه، فإن كان قادراً على القيام في تكبيرة الإحرام، فلا يأتي ويجلس مباشرة ويكبر، وإنما يكبر قائماً؛ لأنه بإمكانه أن يكبر في حال القيام، ثم يجلس إذا كان يشق عليه أن يقوم، وإن كان يمتنع أو يصعب عليه أن يقوم، كالحال في المشلول، فإنه يكبر وهو جالس، أما إذا كان يمكنه أن يقف فإنه يقف ويجعل الكرسي وراءه ولا حرج، فإن أدركته المشقة رجع فجلس، كما هي القاعدة في الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، ويتفرع عنها أن ما أبيح للحاجة يُقَدَّر بقدْرِها.
فلما كانت ضرورته أن القيام يشق عليه نقول: كبِّر قائماً ثم اجلس.
لكن لما كانت الضرورة أن يتعذر عليه القيام قلنا: كبِّر جالساً ولا حرج.
فهذا له قدره وهذا له قدره، فيُنَبَّه الناس؛ لأنك قد ترى الرجل يكبر وهو جالس مع أنه يستطيع أن يقف، وقد يقف ويتناول الكرسي ويخرج به وهو حاملٌ له، فمثل هذا لا يُرَخَّص له أن يؤدي الركن وهو تكبيرة الإحرام في حال قعوده، فهذا يُنَبَّه عليه، فإن تعذر عليه القيام قلنا: يجلس.
وهذا الجلوس جلوسان: جلوس على هيئة شرعيةٍ، وجلوس على غير الهيئة الشرعية.
فجلوس الهيئة الشرعية كأن يجلس الإنسان متربعاً أو مفترشاً أو متورِّكاً، ووجه كونها شرعية أنها جلسة اعتبرها الشرع للتشهد وللجلسة بين السجدتين، فإذا كان جلوسه على هذه الهيئة فحينئذٍ لا إشكال عليه لو جلس بهذه الصفة.
لكن الإشكال إذا جلس الجلسة الثانية، وهي غير الهيئة الشرعية، كأن يجلس على سريرٍ أو كرسي، فإنه بجلوسه على السرير والكرسي في حال القيام يُعذَر، لكن عند التشهد لا يكون ملاصقاً للأرض، ومقصود الشرع أنك عند التشهد أو بين السجدتين تكون قريباً من الأرض، فحينئذٍ يكون ارتفاعه على الأرض خلاف ما ورد في الشرع من كونه ملتصقاً بالأرض.
قال العلماء: إن تَعذَّر عليه أن يجلس انتقل بالانفصال هذا لكونه متصلاً بالأرض عن طريق الكرسي، فكان في حكم الجالس، وأبيح له أن يصلي على هذه الهيئة، أما لو كان بإمكانه أن ينزل ويجلس جلسة المفترش، أو جلسة المتربِّع فإنه يلزمه ذلك ولا يجلس على كرسيّ ونَشَز؛ لأنه يفوِّت صفة الصلاة.
وفي جلوسه متربعاً أو مفترشاً وجهان للعلماء، وأشار إلى ذلك الطبري وابن المنذر في الأوسط.
فقال بعض العلماء -وهو مأثور عن بعض الصحابة-: يجلس جلسة التشهد.
وهذا أقوى، وذلك لأنها هيئة أقرب لهيئة الصلاة.
وقال بعضهم: يجلس متربعاً لأنه أَرفق.
وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر واسع فإن كان الأرفق له أن يجلس متربعاً جلس، وإن كان على جلسة المتشهد جلس، لكن ينبغي أن يُنَبَّه على إعانته على السجود؛ فإن جلوسه كجلسة المتشهد أبلغ في إعانته على السجود من هيئته إذا كان على هيئة المتربِّع؛ لأنه عند التربع يحتاج إلى كلفة حتى يتمكن من السجود.
ودليلنا على الترخيص أن يصلي جالساً ما ثبت في حديث عمران رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عمران مبتلى بالبواسير، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذور؛ لأن من به بواسير فإنه يشق عليه في هيئات الصلاة أن يقوم، ولربما أضرَّه القيام، ولذلك رخَّص له صلوات الله وسلامه عليه، فدلّ على التوسعة في حال وجود العذر، وأنه عند وجود الرُّخصة والعذر لا حرج، وقد قال تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]:.