[حكم تصرف من أخذها الطلق]
وقوله: [ومن أخذها الطلق].
أي: المرأة إذا أخذها الطلق عند الولادة، فإذا حضرها الولاد فإنها تكون بين الموت والحياة، وهذه هي أشد الساعات، وقد بين الله جل جلاله لعبده عظيم فضل أمه عليه حينما قص ما تعانيه الأم في قصة عيسى عليه السلام مع أمه، وانظر كيف كان اختيار الله سبحانه وتعالى، فإن عيسى كلمةُ الله وروحٌ منه، ومع ذلك قال الله تعالى عن أمه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ} [مريم:٢٣]، (فأجاءها) أي: ألجأها واضطرها: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:٢٣]، فهذا يدل على عظم ما تعانيه الأم، فإذا كان هذا العبد الصالح الذي هو كلمة الله وروحٌ منه ألقاها إلى مريم وفي الحفظ الإلهي الكامل التام، ومع ذلك تقول أمه: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:٢٣] فكل مسلمٍ يقرأ هذه الآية ويتدبر ويتفكر ما الذي عانته الوالدة تجاهه، ولذلك جعل الله حق الأم أعظم من حق الأب، وجعل فضلها على الولد أعظم من فضل الأب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صاحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل له الحق بعد حق الوالدة مكرراً دالاً على فضلها وعظيم ما عانته تجاه ولدها.
فإذا ثبت هذا: فإن الطلق قد تنجو المرأة فيه وقد تهلك، واختلف العلماء في مسألة الحمل والولادة وما بعد الولادة: متى يحكم بكون المرأة في حكم الحالة الخطيرة التي لا يصح فيها تبرعها فيما زاد عن الثلث، وتأخذ الأحكام المتقدمة في مرض الموت؟ فبعض العلماء يقول: إذا حملت المرأة ومضى على حملها ستة أشهر، فإنها تدخل في حكم المريض مرض الموت، وهي بين السلامة وبين الهلاك، وبين النجاة وبين الموت، فإذا تم لحملها هذا القدر حكمنا بكونها في حكم مريض مرض الموت، وفائدة هذا القول: أنها لو حملت وبعد ستة أشهر من حملها وتمام الحمل أعطت شخصاً أو تبرعت بمائة ألفٍ، وهذه المائة ألف تعادل مالها كله أو نصفه، أو تعادل ما هو أكثر من الثلث، فإذا قلنا: إنها في حكم المريض مرض الموت، فنرد هذه العطية إلى الثلث إن ماتت، وتكون في حكم المريض مرض الموت، وإن قلنا: إنها ليست في حكم المريض مرض الموت؛ صحت ونفذت ومضى تبرعها.
القول الثاني يقول: ليست العبرة بتمام الحمل ستة أشهر، وإنما العبرة بابتداء الطلق، وهذا القول هو الذي اختاره جمعٌ من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره وصححه، وبينوا أنه هو الأولى بالصواب: أن العبرة ليست بالحمل، وإنما العبرة بحال الولادة إذا أخذها الطلق، فإذا ابتدأ معها الطلق فإنه حينئذٍ يحكم بكونها في حكم المريض مرض الموت، فلو أنها في هذه الحالة وصت أو أعطت ووهبت فحكمها حكم المريض مرض الموت، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، أي أن العبرة بحالة الولادة، وعلى هذا درج المصنف رحمه الله.
فإذا وضعت الولد وبقي طلق من باقي المشيمة، ولم تكتمل ولادتها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت؛ لأن الأمر مخوف في هذه الحالة، وكذلك أيضاً إذا أصابها نزيف بعد الولادة وكان نزيفاً خطيراً يخشى عليه هلاكها، فتكون في حكم المريض مرض الموت، وهذا نص عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة، وبينوا أن المراة إذا وضعت ولدها وتعرضت بسبب الوضع إلى أمورٍ يخشى معها على نفسها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت.
وقوله رحمه الله: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء).
أي: لا يلزم تبرع أحد هؤلاء لوارثه بشيء، فهناك حكمان: الحكم الأول: متعلق بالوصية، والحكم الثانية: متعلق بالعطية.
أما الحكم الذي يتعلق بالوصية: فإذا قلت: إن هذه الأحوال يكون الإنسان فيها في حكم المريض مرض الموت، فإنه تسري عليه أحكام الوصية، فلا تصح وصيته لوارث، فلو وصت المرأة في هذه الحالة لابنتها الوارثة فإنه لا تصح وصيتها ابتداءً، وإنما تورث على إجازة الورثة كما سيأتي؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بالوصية، ثم نسخ هذا الحكم بعد نزول آيات المواريث، فأعطى الله جل جلاله لكل ذي حقٍ حقه من التركة، وتولى قسمتها من فوق سبع سماوات، وبين نصيب البنين والبنات وغيرهم من سائر القرابات، فأعطى كل ذي حقٍ حقه من التركة، وفصل في حكم ما يتركه الإنسان من بعد موته من المال.
وبعد بيان المواريث بين صلى الله عليه وسلم أنه: (لا وصية لوارث)، فمنع من الوصية للوارث وأجاز الوصية لغير الوارث، فدل هذا على أن الإنسان إذا كان قد كتب وصيته، أو عهد بها إلى أشخاص يأخذونها من بعده، وفي الوصية: أعطوا ابني فلاناً كذا وكذا، أو زوجوا ولدي بخمسين ألفاً أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، فهذه وصية لوارث لا تصح إلا إذا أجاز الورثة كما سيأتي، فيقال لبقية الورثة: هل تجيزون وصية أبيكم؟ فإن قالوا: نعم.
فإنها تمضي، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة وبيان كلام العلماء رحمهم الله في كتاب الوصايا، وهل الوصية باطلة في أصلها أم أنها موقوفة؟ وعلى كل حال: إذا قلنا: إنها باطلة فلها حكم، وإذا قلنا: إنها موقوفة على إجازة الورثة فلها حكمٌ ثانٍ، فبين رحمه الله أنه لا تصح وصيته كل من كان مريضاً بهذه الأمراض المخوفة أو هذه الحالات المخوفة، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث.
ويتلخص مما سبق: أن هناك أمراضاً وهناك أحوالاً، فالأمراض يرد فيها القول إلى أهل الخبرة والأطباء، ونسأل الأطباء: ما هي الأمراض المخوفة؟ ويسأل كل طبيب في تخصصه الذي عُرِف ضبطه فيه وإلمامه به، وأما بالنسبة للأحوال، فقد ذكر المصنف منها حالة الطاعون، ويلتحق بهذه الحالة أحوال في مسائل منها: