[المماثلة في القصاص وخلاف العلماء فيها]
قال رحمه الله تعالى: [ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف].
هذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل، والذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنه لا قود إلا بالسيف، وحينئذٍ إذا قُتل المقتول قلنا لأوليائه أو لمن يقوم بالتنفيذ: خذ السيف واضرب عنق القاتل، فهذا ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى.
لكن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء حاصله: أن القاتل إذا قتل بطريقة، وطالب أولياء المقتول وعصبته أن يقتل بنفس الطريقة؛ كان من حقهم ذلك، فإذا أخذ المقتول وقطع يده، ثم قطع يده الثانية حتى نزف ومات، فنقول لأوليائه: اقطعوا يديه بالطريقة التي قطع بها يدي المقتول.
ولو أنه أخذه وضربه بحجر على رأسه، فرضخ رأسه فمات، قلنا لهم: خذوا حجراً كالحجر الذي قتل به، واضربوه مثلما ضربه، هذا هو الأصل في القصاص، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن جارية من الأنصار وجدت قد رضّ رأسها بين حجرين -أي: أُخذت المسكينة بين حجرين وضرب رأسها حتى ماتت- فقيل لها: من فعل بك؟ فلانٌ فلانٌ؟ حتى ذكروا يهودياً، فأشارت برأسها: أن نعم، فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ رأسه ويرض بين حجرين، وفعل به مثل ما فعل بالجارية)، ولأن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨]، والقصاص: من قصّ الأثر إذا تتبعه، فنتتبع جناية الجاني، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا في الحقيقة يختاره غير واحد من العلماء، أي: أن يفعل بالجاني مثلما فعل، إذا طلب ذلك أولياء المقتول، فلو قال أولياء المقتول: لا نريد أن نقتص بالسيف، بل نريد أن نشفي غليلنا وأن نأخذ حقنا كاملاً بأن نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه؛ كان من حقهم هذا، ويمكنون من هذا الحق.
ولو أنه أخذه فغمسه في الماء حتى غرق ومات، قلنا لهم: خذوه فاغمسوه في الماء مثلما غمسه، ولو ربطه ورماه في بركة حتى مات، قلنا لهم: اربطوه كما ربط المقتول، وارموه في بركة مثلها يموت غرقاً كما قتل غرقاً، ولو أنه أحرقه فوضع الوقود عليه، ثم أشعل عليه النار فأحرقه، قلنا لهم: خذوا الوقود وافعلوا به مثل ما فعل بالمجني عليه.
وهذا أبلغ في زجر الناس، وأشد هيبة في زجر المجرمين والعصاة، ولو أن ولي الأمر في بعض الأحوال المستثناة يفعل هذا عند استشراء القتل في الناس؛ لكان أبلغ في زجرهم، وهو أبلغ في إسكان الثائرة، وهدأة النفوس، ولكن العبرة بالقتل، فإذا قتل يقتل وقد جاء في حديث ابن ماجة رحمه الله تعالى: (لا قود إلا بالسيف)، ولكنه حديث ضعيف، ولو حُسِّن لعارض ما هو أصح منه، فإن حديث الجارية في الصحيحين.
ولكن لو أنه قتله بطريقة محرمة، مثل أن يسقيه خمراً -والعياذ بالله تعالى-، ويبالغ في سقيه حتى يموت، فإذا سُقي الجاني الخمر سكر، وحينئذٍ لا يجوز لنا أن نسقيه الخمر؛ لأن هذا يفضي إلى حرام، فلا يفعل به مثلما فعل في هذه الحالة، ولا يوجر الخمر في حلقه حتى يموت؛ لأنه يؤدي إلى حرام، فهذا يستثنى، ولذلك قالوا: يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه ولأوليائه الحق في طلب ذلك، ويمكنهم السلطان والقاضي من ذلك، بشرط ألا يكون الفعل محرماً ولا يمكن الاستيفاء به مثل ما ذكرنا في الخمر.
ومن أمثلتها في زماننا المخدرات، حيث يحقنه بكمية كبيرة من المخدر تقضي عليه، فإنه لا يمكن أن نقول لأوليائه: احقنوه؛ لأنه في هذه الحالة سيسكر، وستؤثر عليه قبل الإزهاق، ولا يجوز تعاطي المسكرات والمخدرات، فحينئذٍ يعدل إلى السيف وتدق عنقه ويقتص منه بالسيف.
قال رحمه الله تعالى: [ولو كان الجاني قتله بغيره].
أي: ولو كان الجاني قتله بغير السيف كما ذكرنا، فالمصنف يرى أنه لا قصاص إلا بالسيف، لحديث: (لا قود إلا بالسيف)، وهذا مرجوح، والصحيح أن لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص مماثلةً، وهذا ما يسميه العلماء: القتل بالمماثل، فإن أخذ حديدة عريضة فضربه في رأسه فشق رأسه نصفين، قلنا لهم: خذوا نفس الحديدة أو مثلها، واضربوه بمثل ما ضرب به وليكم، وإن أخذه فغطه وكتم نفسه، أو فعل به أي فعل محرم فنقول لهم: خذوه وافعلوا به مثل ما فعل، وهذا هو الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص)، فنحن نقتص من الجاني بأخذه بجنايته مماثلة.