[حضور السلطان أو نائبه وشرط آله القتل في استيفاء القصاص]
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وآلة ماضية].
هناك مراحل للقصاص: المرحلة الأولى: أن يحكم القاضي بثبوت القصاص.
المرحلة الثانية: مرحلة التنفيذ للقصاص، ولا يمكن أن ينفذ القصاص إلا بعد ثبوت الحق وحكم القاضي به، فإذا قضى القاضي بتنفيذ القصاص، فينبغي أنه ثبت لفلان حق القصاص، فالتنفيذ يفتقر إلى أمور لا بد من وجودها: أولها: أنه لا يستوفى إلا بحضرة السلطان، أو الحاكم، أو القاضي، أو من ينيبه، وذلك لأنه قد تطرأ أمور أثناء تنفيذ الحد لا بد من الرجوع فيها إلى رأي القاضي وحكمه، وهذا أصل حتى في الحدود، والسبب في ذلك: تلافي الضرر بعدم وجود القاضي والحاكم.
وبعض العلماء يقول: لا يشترط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لولي الدم: (اذهب فاقتله)، فأمره أن يذهب ويقتله، ولم ينصب وكيلاً عنه عليه الصلاة والسلام، ولأن ماعزاً لما آذته الحجارة وأدرك حرها فرّ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يرجع فيتوب فيتوب الله عليه)، وفي رواية: (يراجع نفسه).
وأصحاب القول الأول قالوا: إنه إذا أقر بالزنا، وكان القاضي موجوداً، وقال: لقد رجعت عن إقراري، أوقف التنفيذ؛ لأنه لا يوقف التنفيذ إلا بحكم القاضي، ومن هنا يمكن أن يحتاط لدماء الناس وحقوقهم؛ لأن هذا يسمونه: حق الجاني بعد صدور الحكم، فللجاني حقوق بعد صدور الحكم عليه، ولا يمكن الاحتياط فيها بالشيء على الوجه المعتبر إلا بوجود القاضي أو الحاكم أو كل منهما.
والحمد لله تعالى فهذا موجود في زماننا، وقد جرت العادة في المملكة -ولله الحمد- أنه يوجد من يكون وكيلاً عن القاضي، وهذا على الحقيقة فيه احتياط، وهو أحوط المذهبين؛ لما فيه من صيانة لحق الجاني، وخوف أن تطرأ أمور يحتاج فيها إلى النظر، وحينئذٍ تحقن دماء الناس وتحفظ، ولا ينفذ القصاص على الوجه المعتبر إلا بحضور الحاكم أو نائبه، وحضور الحاكم لا شك أنه أبلغ في الزجر، وأبلغ في تنفيذ حكم الله عز وجل، وأكثر تعظيماً لشعائر الله عز وجل، ولذلك حضر الخلفاء الراشدون، وكان بعضهم يحضر تنفيذ الحد وتنفيذ القصاص؛ لما في ذلك من إعلاء كلمة الله عز وجل وحصول الهيبة أكثر وأبلغ.
أما كون الآلة حادة، فهذا أصل في الشريعة أنه لا يُعذب عند القتل، وعند إزهاق الروح، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهذا في البهائم فالآدمي من باب أولى، فإذا أريد القصاص فيجوز أن يمكِن القاضي ولي المقتول من الجاني، ويقول له: هذا قاتل أبيك فاقتله إن شئت.
فيكون ولي المقتول معه سلاحه أو سيفه، وهذا في القديم كان موجوداً، فإذا قال: أريد أن أقتله بنفسي، ينظر في سيفه والآلة التي يريد أن يقتل بها، فإنه ربما كانت كالة -أي: لم يحدها كما ينبغي- فيضر بالقاتل إذا قتله، فإذا كانت كالة ليست ماضية عذب بها الجاني؛ لأن هذا لا ينفذ الإزهاق بسرعة فيتعذب، وهذا لا يجوز.
وكذلك أيضاً ربما وضع السم في آلته، وهذا كان يفعله بعضهم، وهو زيادة في التعذيب؛ لأن القاتل ما قتل بهذا الوجه، وحينئذٍ لابد أن تتفقد آلة القاتل، لكن في زماننا وُضع من يقوم بالتنفيذ من بيت مال المسلمين، وهذا نص عليه بعض العلماء، وأُرِيْح الناس من هذه الأمور، وكُفوا فيه، وحصل بحمد لله عز وجل الرفق في كثير من هذه الدواخل والاعتبارات التي ربما يفعلها بعض الأولياء احتيالاً لحقه، ومبالغة في التشفي، لكنهم نصوا على هذا الأصل أن على القاضي أن يتفقد آلة القاتل وينظر فيها.