إذا كان لطالب العلم أكثر من درسٍ يواظب عليه فعند الضبط والمراجعة تتداخلُ عليه الدروس، وتكثر عليه المسائل، فما الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم؟
الجواب
أما بالنسبة لتعدد العلوم، واختلاف المشايخ في الطلب فهذا يؤثر كثيراً على طالب العلم، ولا يضبط العلم مثل الانحصار والتقيد وكثرة المراجعة، وهذا معروف حتى في زمان السلف، فإنك لم تجد صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وله طلاب يأخذون عنه؛ لأن الخلاف وقع في الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته عليه الصلاة والسلام فالصحابة كانوا آخذين عنه العلم، لكن بالنسبة للصحابة تجد لكل صحابي أصحاباً، فتجد لـ ابن عمر أصحاباً كـ نافع وسالم ابنه ونحوهم من تلامذة ابن عمر، وتجد أصحاب ابن عباس كـ مجاهد وعطاء وعكرمة ونحوهم من تلامذته، وتجد لـ ابن مسعود علقمة وغيره من أصحابه رضي الله عنه.
فهذا التنوع الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم لما بذلوا علمهم انحصر التابعون، فأخذوا عن كل واحد؛ ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم زيد بن ثابت وأخذ عنه ونبغ في علم التفسير؛ لأن زيد بن ثابت كان من أعلم الصحابة بالقرآن؛ لأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي زيد رضي الله عنه بكى أبو هريرة بكاءً شديداً، وقال:(لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً ولعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) فكان ابن عباس منحصراً في زيد؛ لأنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن عباس حدثاً صغير السن مقارباً للبلوغ، فأراد أن يطلب العلم فانحصر في زيد وأخذ عنه، فقال أبو هريرة:(لعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) يعني: عن زيد فالانحصار ليس المراد به التعصب، إنما المراد أن تبحث عن من تثق بدينه وعلمه وأمانته ممن أخذ العلم -هذا الشرط- عن أهله واتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ممن أخذ العلم عن الكتب فأخذ علماً لا يوثق به؛ لأنه إذا أخذ عن كتب تشتت وتعددت أصوله، وتفرقت إشكالاته واختلفت، فالذي أخذ العلم وطلبه عن أهله ممكن أن ينحصر فيه طالب العلم.
فإذا نظرت أنك تستطيع أن تجمع بين درسين في الأسبوع أو ثلاثة بالأكثر، وتضبطها فحيّ هلا! أما إذا كان العلم الذي تأخذه في الدرس يحتاج إلى ضبط وتكرار فلا تضبط العلم إلا بالانحصار، فإذا انحصرت في العالم وأخذت عنه وارتويت من علمه وضبطت ما عنده انتقلت إلى غيره، وهذا هو الذي كان عليه العلماء رحمهم الله والأجلاء؛ ولذلك انظروا إلى أصحاب ابن عباس فإنك إذا جئت إلى المسائل الخلافية -بالاستقراء والتتبع- تجد القول عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس، تجدهم يقولون: وبه قال نافع وسالم بن عبد الله ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، فيعدد أصحاب الصحابيين؛ لأنهم أخذوا الفقه وضبطوه عنهم، المهم أن تأخذ بالدليل، والمهم أن لا تتعصب لشيخك إذا خالف الدليل، ولكن إذا أخذت عن شيخٍ يوثق بعلمه بدليل وحجة فاستمسك بالحجة والدليل، فإن خالفه أحد وعارضه أحد يقول لك: هذا معارضٌ للسنة؛ فلربما جاءك الغير بدليل يتوهم أنه حجة وأنه سنة، والواقع أنه دليل مطعون في سنده، أو مجاب بدليل عنه أقوى منه، وعلى هذا تقول بقول العالم، وتنحصر في علمه وتأخذ عنه وتضبط، حتى تصل إلى ما وصل إليه، كمثل مشايخنا الكبار -حفظهم الله وأدام الله عليهم العفو والعافية، وأبقاهم للإسلام والمسلمين- هؤلاء العلماء الأجلاء الأتقياء الذين عُرِفوا بالخير والصلاح وزكتهم الأمة، حينما يأخذ طالب علم عن عالم منهم، ويأخذ هذا العلم بدليله وحجته يلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد أخذ العلم بالاتباع، وما جاء بعلم من عنده فشذ، وجاء بالآراء الغريبة، فمثل هؤلاء العلماء الذين عُرِفوا بالأمانة لا يأتون بالأهواء ولا يخبطون خبط عشواء، وإنما يأخذون العلم بحجة، ويسلكون السبيل والمحجة، لهم قدمٌ راسخة من سلفٍ صالح، وأئمة يهتدى ويقتدى بهم، فمثل هؤلاء يعض على علمهم بالنواجذ، فإن وجد قولٌ يخالف قولهم بدليل، وظهرت قوته، وأثرت أنواره وحجته، فإننا نعدل عن هذا القول بحجة هي أقوى وسبيل أبلغ في الرضا، ونعتذر لعلمائنا ومشايخنا بما يليق به الاعتبار، وهذا هو مسلك العلماء والأئمة، أما تعدد الدروس واختلافها فإنه يحدث عند طالب العلم ربكة، ويحدث عند طالب العلم الاضطراب، خاصةً فيما يشترط فيه اتحاد في الأصول، فالفقه إذا قرأته على شيخ ينبغي أن لا تقرأ أصول الفقه إلا بهذا الضابط؛ لأنه لا يستقيم أن تقرأ الفقه على عامل يرجح أن المفهوم حجة، وتقرأ أصول الفقه على يد عالم لا يرى أن المفهوم حجة، فأنت في الأصول تصحح قولاً تخالفه في الفروع والتطبيق وهذا هو الذي جعل العلماء في المذاهب الأربعة يهتمون بتقعيدها وبيان أصولها، حتى يكون استنباطك للنصوص وعملك بالأدلة على قاعدة صحيحة، وعلى هذا درج سواد الأمة الأعظم، فلن تجد عالماً إلا وقد أخذ الفقه من أصل ومذهب بالدليل ولم يتعصب ألا للدليل، فنحن نريد علماً صحيحاً موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأخوذاً عن الأئمة، لكن بدون شتات وفرقة حتى يستطيع طالب العلم أن يصل إلى الحق بأقرب سبيل، وأوضح معنى.
نسأل الله العظيم الجليل أن يرزقنا الصواب والرشاد، وأن يجعلنا من أهل الصبر، وأن يثبتنا عليه إلى أن نلقاه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.