وقبل الشهادة الخامسة يوقفه القاضي، ويذكره بالله عز وجل ويخوفه، فيقول له: إنها موجبة، اتق الله عز وجل؛ لأنه يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وانظر سبب اختيار الشرع للعنة؛ لأنه الذي جرى منه القول بتهمة المرأة بالزنا فناسب أن يعاقب باللعن من الله عز وجل.
والمراد باللعنة في مثل هذا -سواءً كان بالقذف في مجلس القضاء أو خارج مجلس القضاء -لعنة الدنيا والآخرة، فالذي يرمي المحصنة الغافلة المؤمنة، أو الرجل المؤمن المسلم الغافل يلعنه الله في الدنيا والآخرة، وإذا اجتمعت لعنة الدنيا والآخرة فهي عظيمة البلاء على الإنسان؛ لأن لعنة الدنيا قد تغفر، لكن أن يجمع له بين لعنة الدنيا والآخرة فالأمر عظيم، فقبل اللعنة يوقفه القاضي ويخوفه بالله، لكن المرأة لما فعلت لاعنت كأنها هدمت أيمان الزوج، وكأنها فعلت فعلاً مغايراً لفعل الزوج، وذلك بالقول، فجُعل لها الغضب، نسأل الله السلامة والعافية! فاللعنة على الرجل، والغضب على المرأة، فيوقفه القاضي قبلها ويقول له: اتق الله، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، يعني: لو تعترف أنك كاذب وأن الزوجة لم تزن، ويقام عليك حد القذف ثمانون جلدة أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فيفضحك، ويلعنك في الدنيا والآخرة، فعذاب الدنيا -وهو عذاب القضاء الشرعي في الدنيا- أهون وأخف من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، واختار بعض العلماء أنه يمسك على فيه خشية أن يتسرع، وكل هذا من باب النصيحة له والشفقة عليه حتى لا يتهور.
فإذا شهد الشهادة الأولى فمن الناس من ينزجر عند ابتداء اللعان إذا كان كاذباً، ومنهم من يرجف قلبه عند الثانية، ومنهم من يرجف عند الثالثة، ومنهم من يرجف قلبه عند الرابعة، فجاءت الشريعة فالإيقاف قبل الخامسة؛ لأنه ربما تردد أثناء الأربع، فإذا جاءت الخامسة فإنه يُعطى المهلة ويذكر وينصح، فلا يجرؤ على الخامسة التي هي الموجبة وهو كاذب إلا من طُبع على قلبه وزاغ قلبه، وانطمست بصيرته، واستخف بعظيم ما عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسأل عن حاله إذا شهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا شهد الخامسة وأتمها ففي هذه الحالة كأن كل يمين قامت مقام شاهد، وتوجهت التهمة على المرأة، فلابد أن تأتي بمثل ما أتى به دفعاً للضرر عن نفسها، فربما كانت صادقة وكان ظالماً لها، فتشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فتقول: أشهد بالله لقد كذب عليّ فيما رماني به من الزنا، فنقول: أشهد بالله، فلو قالت: أحلف أو يميني بالله، فلا يقبل منها -كما تقدم-، فلا تغير ولا تبدل ولا تنقص ولا تزيد.
فإذا شهدت أربع شهادات بالله عز وجل توقف عند الخامسة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوقف المرأة عند الخامسة، وقال:(اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)، فرجفت وتلكأت وكادت أن تعترف، حتى قال أنس وابن عباس رضي الله عنهما:(فتلكأت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، وحلفت الخامسة فكانت الموجبة.
فيوقف الرجل وتوقف المرأة ويقال لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، ترهيباً وزجراً، فهذه ثلاث كلمات: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، والموجبة من وجب الشيء إذا ثبت، فقوله: الموجبة، يعني: إذا حلفت باللعنة وكنت كاذباً فإنها ستصيبك لا محالة، ولو كنت أتقى العباد، وإذا حلفت أن غضب الله عليها وهي كاذبة، فلن يرد غضب الله عليها شيء، وسيصيبها غضب الله، ومن أصابه غضب الله فقد هوى {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}[طه:٨١]، فإذا أقدمت على الخامسة فإنها تدفع عن نفسها الحد، وهذا ثبت بقوله تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}[النور:٨] يعني: ويدفع عَنْهَا الْعَذَابَ الذي هو حد الرجم إذا كانت قد وطئت ودخل بها، وإن كان عقد عليها وهي بكر لم يدخل بها، فحدها جلد مائة وتغريب عام.
وقوله تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}[النور:٨] يدل على أن الزوج إذا حلف الأيمان ثبت الحد، وأنها مُنزلة منزلة البينة، وهذا اختيار طائفة من الأئمة من جماهير السلف والخلف رحمهم الله، فأيمان المرأة تنقض أيمان الرجل.
قال رحمه الله:[ومع غيبتها يسميها وينسبها]: (ومع غيبتها يسميها وينسبها) على وجه تتميز به عن غيرها.