[معنى قول العلماء: (قياس مع الفارق)]
السؤال
نرجو من فضيلتكم توضيح قول الفقهاء رحمهم الله: (قياس مع الفارق)؟
الجواب
القياس دليل شرعي، وهذا الدليل الشرعي لا يجوز لأحد أن يستخدمه إلا إذا علم ضوابط الشريعة فيه، فالسلف والعلماء والأئمة أكثر من عشرة قرون قد قعَّدوا هذا الدليل الشرعي، وبيّنوا ضوابطه، فلا يجوز لأي شخص أن يستخدم هذا النوع من الأدلة إلا وهو يعرف أركانه وشروط، أي: الأركان المعتبرة للعمل به وإثباته، فلا يأتي أحد فيقيس شيئاً على شيء دون علم ومعرفة؛ لأنه قد يحلِّل ما حرم الله، وقد يحرم ما أحل الله، والرأي قد يكون مزلّة للإنسان إذا لم يحسنه؛ لأن الرأي سلاح ذو حدين، فإما أن يكون سبباً في بناء الشرع وتميُّز أحكامه ومعرفتها والوصول إلى الحق في المسائل المشكلة، وإما أن يكون العكس والعياذ بالله! ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه المشهور الذي كتبه لـ أبي موسى الأشعري، وهو من أعظم كتب الفقه، وقد اشتمل على قواعد مهمة للفقيه، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله شرحه في أكثر من مائة صفحة، وهو كتاب عمر رضي الله عنه الذي قال فيه: (اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بأمثالها)، فبدأ بالمعرفة، فتحتاج إلى أن تعرف ما هو الأصل؟ وما هي العلة التي تربط بين الأصل والفرع؟ وتعرف الحكم المستنبط والذي تتوصل إليه، والذي من أجله أثبتَّ القياس.
والقياس يقوم على أربعة أركان: ١ - فرع مختلف فيه.
٢ - وأصل متفق عليه بين الطرفين.
٣ - وحكم لذلك الأصل.
٤ - وعلة تربط بين الفرع وبين الأصل.
فمثلاً: نقول: لا يجوز التفاضل في الأرز كما لا يجوز في التمر، بجامع الكيل عند الحنفية، والقوت والادخار عند المالكية، والطعم عند الشافعية، والطعم مع الكيل أو الوزن على رواية عند الحنابلة رحمهم الله، أو الطعم على الرواية الثانية، أو الكيل على الرواية الثالثة، فهذا القياس قد ألحقت الأرز بالتمر فقلت: لا يجوز أن يُباع الرز بالأرز متفاضلاً، ويجري فيه الربا مثل التمر والشعير؛ لأنك ترى أن الأرز والشعير لا فرق بينهما من حيث القياس.
إذاً: الفرع هو الأرز؛ لأنه لم يرد فيه نص لا في الكتاب ولا في السنة، والأصل المتفق عليه هو التمر؛ بأنه لا يجوز بيع التمر بالتمر متفاضلاً، والحكم: هو عدم جواز التفاضل، والعلة: ما ذكرناه في المذاهب الأربعة مفصلة، وفي هذه الحالة يجري القياس.
ويشترط في الأصل الذي تقيس عليه من الشروط: ألا يكون معدولاً به عن سنن القياس؛ فلابد أن يكون صالحاً لأن يقاس عليه غيره، فإذا كان معدولاً به عن سنن القياس فلا يصح، فمثلاً: المرأة إذا قذفها زوجها -والعياذ بالله- بالزنا فإنه يلاعنها إذا لم تكن له بينة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، وذلك في حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فاشتكى هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه نزل فيك وفي صاحبتك قرآن)، فجاءت فتلاعنا، فالرجل مع زوجته إذا قذفها فإنهما يتلاعنان، لكن لو أن أخاً قذف أخاه والعياذ بالله، فهل يجري بينهما اللعان؟ فلو جاء شخص يجهل ضوابط القياس فقال: يجري اللعان بين الأخ وأخيه كما يجري بين الزوج وزوجته، بجامع وجود القرابة في كلٍ؛ فنقول: هذا قياس فاسد؛ لأن الأصل معدولٌ به عن سنن القياس.
إذاً: هناك شروط وضوابط في الأقيسة، فمثلاً: إذا كانت الجوارب خفيفة، وقد كان الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الجوارب سميكة، فنزلت الجوارب السميكة منزلة الخف؛ لأنه مثله في الوصف وقريب منه، حتى إنهم ربما يواصلون عليه المشي ولا يسترون أقدامهم، حتى إنهم يلفُّون التساخين لأجل الوقاية من الحجارة، ولا تكون كذلك إذا كانت رقيقة، فإذا كان الأمر كذلك، فلو جاء أحد يقيس فقال مثلاً: يجوز المسح على الخفيف من الجوارب كما يجوز المسح على الخفين، فنقول: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الخف يمكن مواصلة المشي عليه، وهو ساتر للرجل بخلاف هذا الشفاف الرقيق، ولأن الخف في الأصل رخصة عُدل بها عن الأصل الذي هو غسل الرجلين، وهذه الرخصة ينبغي أن تتقيد بما ورد وثبت في السنة، والمحفوظ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هو الخف، والجورب الثخين، ولذلك جاء في رواية السنن: (الجورب المنَعَّل)، أي: الذي يكون في أسفله جلد، فإذا ثبت هذا، ثم إذا جاء أحد يقيس -وأعني: عند من لا يرى المسح على الخفيف- فنقول: إن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الثخين في حكم الخف، ولذلك جاز المسح على الجوارب لأنها في حكم الخفاف، فلا يجوز قياس الخفيف عليها، وهذا كله قياس مع الفارق، فتثبت الفارق بينهما؛ فإذا أثبتّ الفارق قَدَحْت في القياس.
والقياس مع الفارق يسميه العلماء: قادح من قوادح القياس، وهذا القياس الذي أثبته العلماء كدليل وحجة يُعترض عليه، ويُقدح فيه من أربعة عشر وجهاً، منها: فساد الاعتبار، والقلب، والنقض، ومنها: أن يقال: هذا قياس مع الفارق، فتثبت أن هناك فرقاً بين الأصل وبين الفرع، وتُضعِّف إلحاق الفرع بالأصل من هذا الوجه.
فالقياس مع الفارق قادح من قوادح القياس الأربعة عشر، وإذا سلّم الخصم أن هذا الفارق مؤثر فحينئذٍ يبطل قياسه، أو يلزم بدليل آخر بدلاً عنه، والله تعالى أعلم.