والغضب له ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: بداية الغضب التي يملك الإنسان فيها نفسه، ويسيطر فيها على مشاعره وأقواله وأفعاله.
المرتبة الثانية: غاية الغضب، بأن يكون كالمجنون، لا يعي ما يقول، بحيث لو تلفظ بالشيء ثم قيل له بعد انتهاء غضبه وانكسار ثورته: إنك قلت: كذا وكذا، لا يتذكر أنه قال هذا الشيء، ولربما ينكر ويقول: ما وقع هذا مني، فهذه غاية الغضب، ففي الحالة الأولى يكون بداية الغضب، والحالة الثانية عكسها: نهاية الغضب.
وهناك مرتبةٌ ثالثة مترددة بين المرتبتين وهي: أن يفقد السيطرة تارة، ويتمالك نفسه تارة، فهو متردد بين التمالك وعدمه؛ فإن كان في الحالة الأولى وهي أن يكون في بداية الغضب فإن طلاقه يقع بإجماع العلماء؛ لأن الإنسان في الأصل لا يطلق امرأته إلا وهو غاضبٌ عليها، فلا يوجد أحدٌ يكون جالساً مع امرأته يضحك معها ويقول لها: أنت طالق.
فالأصل: أن الطلاق لا يكون إلا بسبب، إما لاستثارةٍ من الزوجة، أو أمر يكون بينه وبين زوجته، فالغضب غالباً يكون مصاحباً للطلاق، فإذاً: بإجماع العلماء أن بداية الغضب يقع فيها الطلاق.
الحالة الثانية: وهي نهاية الغضب، والتي يصل فيها إلى درجة لا يفرق فيها بين السماء والأرض، بل حتى إن بعضهم -نسأل الله السلامة والعافية- ربما لا يعرف أن التي أمامه زوجته، ويقول: امرأتي طالق، امرأتي طالق، نسائي طوالق ونحو ذلك من شدة ما هو فيه، فهذا النوع الذي وصل إلى غاية الغضب الذي يفقد به عقله -والعياذ بالله- وإدراكه، ولا يستطيع أن يتحكم في تصرفاته، لا ينفذ طلاقهُ وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله، وينازع في ذلك بعض أصحاب المذاهب ويقول: إنه ينفذ مطلقاً على الأصل الذي يقرر، فهل تدخل هذه الحالة عندهم أو لا؟ الظاهر من أصول الشريعة: أنها لا تدخل؛ لأن الغضبان في هذه الحالة ينبغي أن يقال: إنه مجنون، ويأخذ حكم الجنون المتقطع؛ لأنه إذا وصل به غضبه إلى درجةٍ لا يعي بها ما الذي أمامه، ولا يستشعر أن التي أمامه زوجه، فهو كالمجنون، ويعرف هذا بقرائن وأدلة، فبعض الناس الذين عُرِفوا بالعصبية، لا يتوقف أمره على الطلاق، بل يعرف أنه في أي قضية إذا استفزه أحد واستثاره فإنه يصل إلى غاية الغضب؛ ويتكلم ولا يعي ماذا يقول، ولربما يتكلم بالكفر -والعياذ بالله- والردة، فهذا في حكم المجنون؛ ولذلك قال بعض العلماء: إنه إجماع؛ لأنه في الحقيقة ينبغي أن يكون مندرجاً تحت مسألة المجنون، وعلى هذا: إذا وصل به الغضب إلى هذه الحالة، وهو يعلم أنه فيما بينه وبين الله لا يتذكر امرأته ولا يعرف ما الذي أمامه، ولا يعي ما الذي قاله؛ فإنه لا ينفذ عليه طلاقه.
الحالة الثانية: وهي المترددة، وتقع مثل ما ذكرنا في السكران، فمنهم من يقول: الأصل فيه أنه مؤاخذ فنستصحب حكم الأصل ونمضي عليه الطلاق، ونقول هنا: هل غضبه أوصله للجنون أو لا؟ فلما خاطب امرأته أمامه وقال: امرأتي فلانة طالق، فمعنى ذلك أن عنده تمييزاً وإدراكاً، ويعلم أن التي أمامه هي امرأته، ولذلك قالوا: نؤاخذه بطلاقه، وقال بعض العلماء: إذا كان في هذه الحالة المترددة فلا ينفذ عليه طلاقه، واستدلوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:(لا طلاق في إغلاق)، والصحيح: أنه إذا استشعر أنه طلق، واستشعر أنها امرأته، فإنه ينفذ عليه طلاقه في هذه الحالة وهذا هو الأصل، والإغلاق هنا ليس بتام، وإنما يكون الإغلاق مؤثراً إذا تم وفقد معه السيطرة على ألفاظه وكلامه.
وهناك بعض القرائن التي تدل على أن طلاقه يقع، كرجلٍ يكون مع امرأته ويطلقها ويقول: أنا غضبان، فإذا جاء يدعي الغضب تسأله عن حالته فإن قال لك: كنت مع زوجتي فاستثارتني وقلت لها: إن أغضبتيني سأطلقك، أو سيكون طلاقك، فأغضبته ثم طلق، فتعلم أنه في هذه الحالة مدركٌ لوعيه؛ لأنه أنفذ ما وعد، ففي حالة الغضب: يقع كثيرٌ من التلاعب من الناس، وينبغي على العالم أن يكون حذراً فطناً من تلاعب الناس؛ لأن الطلاق أمره عظيم، ومن طلق وتلاعب بطلاقه وادعى أنه لا يعلم، وأنه فاقدٌ لشعوره وأنه وأنه فينبغي الحيطة في أمره؛ فإن الناس فتنة، والرجل إذا طُلّقت عليه امرأته -خاصةً إذا كانت الطلقة الأخيرة- فإنه يصبح كالمجنون -والعياذ بالله- فيحرف في الألفاظ ويغير فيها ويبدل، ويدعي أموراً قد لا تكون حقيقة، ولذلك ينبغي الاحتياط في مثل هذه المسائل.
ولا ينبغي فتح الباب لكل من هبّ ودبّ إذا ادعى أنه غضبان أن يقبل قوله، إنما يقبل لو شهد ثقاتٌ وأُناس من أهله أنه رجل عصبي المزاج، وأنه إذا استثير يصل إلى درجة لا يعي فيها ما يقوله ويفعله، أو شهد زملاؤه في عمله على ذلك أو نحو ذلك من الأدلة التي تثبت أن غضبه مؤثر، فمثل هذا إذا وصل إلى حالةٍ يفقد فيها السيطرة على نفسه واستغلق عليه الأمر فالأشبه أن طلاقه لا يقع.