للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحكم والمقاصد الشرعية في الطلاق]

قال أهل العلم: إن في الطلاق حِكَماً عظيمة، فالله سبحانه وتعالى شرع للزوج إذا وصَلَت الحياة الزوجية إلى مقام لا يُحتَمَل، وحصل الضرر على الزوج أو الزوجة أو عليهما معاً من البقاء في النكاح أن يُطَلِّق، وجعل هذا الطلاق ثلاثاً، فجاءت الشريعة بالوسطية، فكان أهل الجاهلية في القديم يتخذون من الطلاق وسيلة لأذية النساء، فكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى تُقَارِب الخروج من العدة فيراجعها، ثم يطلقها طلقة ثانية، ويتركُها حتى تكاد تخرج من عدَّتها فيراجعها ولا يقربها ولا يعاشرها، إنما يفعل بها ذلك إضراراً: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:٢٣١]، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:١٢٩]، فكانوا يجعلونها كالمعلقة، لا زوجةً ولا مطلقة، فكانوا يُضَارُّون بالطلاق، فجعله الله ثلاثاً.

وانظر إلى حكمته سبحانه وتعالى وكمال علمه جل جلاله، حينما جعل الطلاق على هذا الوجه، قالوا: لأن الحياة الزوجية إذا وَصَلَت إلى ضرر يَوجِب الطلاق فإما أن يكون من الرجل أو المرأة، فالرجل يُقْدِم على الطلاق فيُطَلِّق الطلقة الأولى، ففي الطلقة الأولى إما أن يكون الخطأ من الرجل أو يكون من المرأة، أما إذا كان منهما فلا إشكال، وفي الحالة الثانية: فإن الغالب أن الرجل إذا طلق الطلقة الأولى أن يتعقَّل ويذوق مرارة الطلاق، ويعرف هذه المرارة فيحِن إلى زوجته إذا كان ظالماً ومسيئاً، فيشعُر بقيمة الزوجة عند الفراق لها، فيحِن لها فيراجعها، فأَعْطَاه الله الرَّجْعَة، فإن رجع إليها رجع لها بعقلٍ غير عقله الذي كان معه، ويرجع إليها ببصيرة أكمل من بصيرته في حالِه الأولى، فإذا رجعت إليه ربما أخطأت هي، فإذا أخطأت عليه في هذه الحالة فإنه سيطلقها الطلقة الثانية، فأُعْطُوا أيضاً مهلة ثالثة، فإذا زادت عن الثالثة فلا وجه، فتصبح الحياة فيها نوع من الإضرار، وربما استغل الرجال الطلاق للإضرار بالمرأة، لذلك حدده الله عز وجل بثلاث تطليقات.

فالطلقة الأولى لأن الخطأ إما أن يكون منه أو منها؛ فإن تكرر الخطأ منه في الثانية والثالثة، فلن تعود إليه حتى تكون عند زوجٍ غيره، فإذا عاشَرَت زوجاً غيره وطلقها الطلقة الثالثة أدَّبَه الشرع بأن تكون فراشاً لغيره، فيكتوي بنار الغيرة ويتألَّم ويتأوَّه، فإن كانت هذه المرأة عاقلةً حكيمة ووجدت زوجاً أصلح من الزوج الأول وبقيت معه وحمدت الله على السلامة من الأول، فعندها يكتوي الأول وينال عاقبة ظلمه وإضراره.

فإن تزوج امرأةً ثانية؛ فإنه يتأَدَّب ولا يُقدِم على الطلاق ولا يهجم عليه؛ لأنه يخاف أن يحصل له مثل ما حصل مع الأولى، وإن نكحت هذه الزوجة زوجاً أضر منه وطلقها ثلاثاً فتحل للأول؛ فإن عادت للأول عادت وهي تحمد ضرره وقالت: هذا أرحم من سابقه، فصبرَت عليه، ثم هو يعود لها بنفس غير النفس التي كان عليها.

فإذاً: تقييد الطلاق بالثلاث فيه حكم عظيمة؛ ثم إن الله سبحانه وتعالى من حكمته أن جعل الطلاق مخرجاً من المشاكل، فإن الحياة الزوجية لا تخلو من وجود المشاكل، إما بسبب اختلاف طبائع الناس، طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، أو تكون باختلاف الطبائع ممن يحيط بالزوج والزوجة كأهله وقرابته وأهلها وقرابتها، وحينئذٍ تنشأ المشاكل بسبب هذا الاختلاف والتضاد، فيكون الطلاق حلاً لهذه المشاكل؛ لأن كلاً منهما يمضي لسبيله، ويلتَمِس عشيراً يُحسِن إليه ولا يسيء، ويكرمه ولا يهينه، ويكون منه ما يُقصد من النكاح.

أما لو بقيت المرأة عند زوجها، ولم يكن للزوج مخرج بطلاقها فلا شك أنه أمرٌ عظيم، فلربما اطَّلع الرجل من امرأته -والعياذ بالله- على خيانة، أو على وقوعٍ في حرام، أو يكون يَطَّلع منها على أخلاق رديئة، تنتقل إلى أولاده وذرِّيته، فلو أن الشرع أَلزَمَه ببقائها، فإن هذا غاية الضرر على الرجال، ولتَرَك الكثير الزواج خوفاً من هذا؛ لأن المنهج التشريعي في شرع النكاح أن نقول: يبقى إلى الأبد، أو نقول: يبقى مؤقتاً، فأما بقاؤه مؤقتاً ففيه إضرار بالرجل والمرأة كما في نكاح المتعة، وقد ذكر العلماء الضرر فيه، وأما كونه يبقى إلى الأبد، فإنه في حال وجود المشاكل والأضرار يبقى النكاح مفسدةً بَدَلَ أنه مصلحة، فينقلب من المصالح إلى المفاسد والشرور.

فالوسط أن يبقى النكاح إلى الأبد، ولكن يرتفع إذا وُجِد مُوجب ارتفاعه وذلك بالطلاق.

ثم هذا اللفظ -لفظ الطلاق- عَظَّم الشرع أمره، وألزم المكلف أن يحذر منه، فحتى لو تلفظ به هازلاً أو مازحاً؛ فإنه يُؤاخَذ بهذا اللفظ، ويُعَاقب بمضي الطلاق عليه، فلو أن رجلاً قال لرجلٍ يمزح معه: امرأتي طالق، فإنها طالق ولو قصد الهَزَل، وكذلك لو جلس مع امرأته فأحب أن يمزح معها وقال هازلاً: أَنتِ طالق أو طلَّقتُكِ أو أنت مطلقةٌ فإنه يمضي عليه الطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق)، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أربعٌ جائزاتٌ إذا تُكُلِّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، فهذا يدل على عظم شأن الطلاق، ولذلك ينبغي للمسلم ألا يستعجل في الطلاق وأن يتريث فيه.

وقد نص العلماء رحمهم الله على كراهية الطلاق إذا لم يكن من حاجة، وأنه كالمخرج عند إعياء الحِيل، وإذا تعب الزوج ولم يستطع علاج مشاكله، فإن الطلاق يكون مخرجاً من هذه المشاكل، وعلاجاً لهذه الأضرار، أما إذا كان من دون حاجة فقد نصوا على كراهيته وبُغضه في هذه الحالة.

وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) من عادة العلماء في كتاب الطلاق أن يبينوا أركانه، فيبينوا أولاً من الشخص الذي يملك الطلاق وله حق الطلاق؛ لأن الطلاق قد يصدُر من الأهل وقد يصدر من غير الأهل، كأن يصدر من صبي صغيرٍ، أو مجنون أو سكران أو مُكْرَه، فيبحثون مسائل الشخص الذي هو أهلٌ للطلاق.

كذلك أيضاً يبحثون الركن الثاني، وهو لفظ الطلاق وصيغته، فيبينون ألفاظ الطلاق الصريحة، وألفاظ الطلاق الكناية، وألفاظ الطلاق التي تُعتَبَر من السنة، وألفاظه البدعية، ثم كذلك يبينون الألفاظ المعَلَّقة والمنجَّزَة إلى غير ذلك من مباحث الصيغ.

وكذلك أيضاً يُبيِّن العلماء محَلَّ الطلاق وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق؛ فإن الطلاق قد تُواجَه به المرأة التي هي زوجة المطَلِّق، وقد تواجه به أجنبية كأن يقول: إن تَزوجْتُك فأنت طالق، وأيما امرأةٍ تزوجتها فهي طالق، وأيما امرأةٍ أَعقِد عليها فهي طالق، وقد يُعمِّم وقد يُخصِّص هذا المحل.

وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان المَحَل الذي يرد عليه الطلاق ويُحْكَم بصحة الطلاق إن ورد عليه، كذلك أيضاً اعتنى العلماء رحمهم الله في باب الطلاق ببيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته من حيث السنة والبدعة، فيقولون: هذا طلاقٌ سُنِّي لما وافق السنة، كأن يطلق المرأة المدخول بها في طُهرٍ لم يمسّها فيه طلقة واحدة فإنه يكون طلاقاً سُنِّياً، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وأُثِر عن علي أيضاً: (لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم).

فيبينون الطلاق المشروع الذي شرعه الله وبيَّنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي للمسلم أن يلتزمه، وكذلك يبينون الطلاق البدعي والآثار المترتبة عليه كطلاق المرأة الحائض حال حيضها، وطلاق الثلاث بلفظٍ واحد، وهل يقع أو لا يقع، كل هذا يعتني به العلماء رحمهم الله في كتاب الطلاق، وبعد أن يبينوا الطلاق يشرعون في بيان آثار الطلاق، وهو باب العِدَّة وباب الرجعة، فيعتنون ببيان مسائل العِدَدْ ومسائل الرَّجْعَة، وكل ذلك اعتنى به المصنف -رحمه الله برحمته الواسعة- وكذلك إخوانه من العلماء، رحمهم الله أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>