[أحكام المبيعات التي تلفت قبل قبضها]
قال رحمه الله: [وإن تلف قبل قبضه، فمن ضمان البائع]: أي: وإن تلف الطعام أو الكساء والقماش ونحوه قبل قبضه، فمن ضمان البائع.
فمثلاً: أنت اشتريت من تاجر مائة طاقة قماش من نوع معين، وقال لك: هذه المائة بألف ريال، أو بألفين، أو بثلاثة، فقلت له: هذه الألف أو الألفان، فمتى أقبضها؟ قال: ائت غداً، فتلفت في الليل، أو عَدَتْ عليها أرضة فأتلفت شيئاً منها، أو تضررت، فجئت في الصباح فإذا بهذا المال الذي اشتريته بالأمس قد ذهب ثلثه، أو ذهب نصفه، أو ثلاثة أرباعه، فعلى من الضمان؟ سيقول البائع: بعتك، وهذا المال باسمك وليس باسمي، فتقول: صحيح أنني قد تعاقدت معك والعقد صحيح؛ لكن لا يدخل في ضماني حتى أقبض، وأنا لم أقبض.
إذاً: مسألة الضمان متوقفة على القبض.
فعلى هذا لا نحكم بانتقال الضمان من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض.
فهذه الزجاجة التي انكسرت سواءً انكسرت من الرف، أو سقطت بآفة سماوية مثل الرعد، أو بفعل المكلف، كعامل دفع الرف فسقطت هذه الزجاجة، فنقول: هذه الزجاجة من ضمان البائع، حتى يمكَّن المشتري من أخذها واستيفائها.
لكن إذا قال له: هذا القماش جاهز، تعال فخذه، ومكَّنه من قبضه واستيفائه، فماطل المشتري وتأخر حتى جاءت الآفة السماوية وأتلفته، فإنه يكون مِن ضمان المشتري؛ لأنه قصَّر، فيُلزم بعاقبة تقصيره.
ومن هنا: المرأة إذا مكَّنت الرجل من الدخول، ومكَّنه أولياؤها من الدخول، وجبت عليه النفقة؛ لأنها في حكم المدخول بها، والتقصير واقع مِن الزوج.
فهذا أصل شرعي، وهو أنه متى مُكِّن ولكنه قصر فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، ومن هنا حكموا بوجوب القضاء على من أكل يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طلع، أو أن الشمس قد ظهرت؛ لأنه قصر ومن قصر يلزم بعاقبة تقصيره؛ لأنه لو احتاط لنفسه، لما وقع الذي وقع.
قال رحمه الله: [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]: معناه أنه لا يضمن المشتري، ومعنى (بطل البيع)، أي: صار في ضمان البائع، سواء قلت: بطل البيع، أو قلت: في ضمان البائع، فالمعنى واحد.
قال رحمه الله: [وإن أتلفه آدمي خُيِّر مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]: قوله (وإن أتلفه آدمي) أي: قصداً أو بدون قصد.
أتلفه آدمي قصداً، كإنسان اعتدى على بقالة فكسر ما فيها، أو اختصم صاحب البقالة مع رجل فكسر له ما ببقالته، وكان من ضمنها المبيع، فتلف بفعل آدمي.
وأتلفه بغير قصد مثلاً: العامل يريد أن ينزل الزجاجة فتنزلق من يده فتنكسر، أو يأتي ليضع السلم فتسقط الأشياء الموجودة على الرف ومنها المبيع، فهذا بغير قصد، فسواء أتلفه الآدمي بقصد أو بغير قصد، فالقصد وعدمه واحد في باب الضمانات.
لأن باب الضمان لا يلتفت فيه إلى القصد، فمثلاً: شخص جاء وصدم سيارتك وقال: لم أقصد، نقول: الحقوق لا يلتفت فيها إلى مسألة قصدت أو لم تقصد، فهذا في الإثم وهو بينك وبين الله، فتأثم إن قصدتني، ولا تأثم إن لم تقصد، لكن حقي في السيارة تضمنه كاملاً.
ولذلك لو رأى أي فريسة وأطلق عليها فأصابت الرمية آدمياً فقتلته وجب عليه أن يدفع الدية، ولا يقول: إني أخطأت، قال تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:٩٢].
فتحرير رقبة هنا: ليس من باب المؤاخذة بالإثم، وإنما من باب أنه قصر، ولذلك ما من مخطئ إلا وهو مقصر، ومن هنا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:٩٢] قيل في قوله: (إِلَّا خَطَأً): ولا خطأ، بمعنى: ألا يتعاطى أسباب التقصير.
فالشاهد: أنه إذا أتلف الآدمي السلعة بقصد أو بدون قصد، وقد عقد عليها، فالمشتري مخير، إما أن يقول: أريد مالي، ويفسخ البيع، أو يقول: أنا أطالب هذا الرجل الذي أتلف، ويكون توجهه على المتلف دون البائع، وهذا يختلف باختلاف الأحوال.
ففي بعض الأحيان يكون بين تاجر مع تاجر، ولا يريد أن يحرج التاجر، فيتوجه على الذي أساء وأضر، فهذه أمور تختلف باختلاف الأشخاص، إن شاء أخذ حقه من هذا أو من ذاك، فالكل يراد به إيصال الحق إلى صاحبه.
فإذاً يرد التقرير: إن قلنا: إنه يفسخ البيع، فلفوات المبيع، فإنه إذا فات المبيع على وجه لا يمكن تداركه، فحينئذٍ ينفسخ البيع.
وإن قلنا: إنه قال: أريد أن أطالب الذي أتلف، فهذا مبني على أن البائع قد مكن من القبض، أو يكون في حكم التمكين من القبض، ولم يكن عنده مانع ويكون حينئذٍ خارجاً عن يده، وإذا أراد أن يطالب هذا الذي أتلف فإنه يطالبه.
فقوله: (خير مشتر بين فسخ) أي: فلا يطالب المتلف، وإنما يطالب البائع، (وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله) وهذه المسألة لها مغزى -كما ذكرنا- لأنه في بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالفسخ، وفي بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالبدل، مثلاً: لو أن هذا الشيء الذي اشتراه أتلفه متلف، وفي آخر النهار أصبحت قيمته غالية جداً، فيريد البدل، فوجود البدل أحظ له؛ لكن إذا فسخ البيع رد له البائع ثمناً أقل، فينظر الأحظ لأن له الحق في هذا، وله أن يأخذ حقه كاملا، ً كما ذكرنا فيمن وجد العيب في السلعة، إن شاء تنازل عن حقه، وإن شاء أخذ أرش النقص في المبيع، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن.