[قتال العصبية]
قال المصنف رحمه الله: [وإن اقتتلت طائفتان بعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان].
بعد أن انتهى من أحكام البغاة شرع في مسألة قتال العصبية والحمية والثارات، كما يقع بين القبائل والجماعات، ويقع في العداوات والخصومات، وهذا لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، ولذلك إذا وصفنا الفئة المقاتلة بأنهم بغاة، فهو أهون من أن يقال: إنه قتال عصبية؛ لأن أهل البغي يعاملون معاملة خاصة, ولهم أحكام خاصة، أما إذا كان قتال عصبية فالحكم مختلف، ففي قتال أهل البغي: لا يجب على أهل البغي ضمان ما أتلفوه، فلو وقع بينهم وبين جماعة المسلمين وإمامهم قتال فقتلوا وقُتل منهم لم يجب الضمان، لا على الفئة العادلة ولا على الفئة الباغية، وهذا في قول جماهير السلف والخلف.
وهناك رواية عند الشافعية وقول عند الحنابلة: أنهم يضمنون.
والصحيح: أن الفئة العادلة لا تضمن، والفئة الباغية لا تضمن، فلا يجب عليهما الضمان إذا كان هناك إتلاف أو قتل أثناء القتال، لكن في قتال العصبية وما يقع في الثارات والعداوات، فإنه يجب الضمان, ويعاقب الإمام الطائفتين، ويصلح بينهما بالعدل، لكن يؤاخذ الطائفة الباغية الظالمة أكثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النداء بالشعارات والثارات أنه يورد الإنسان يوم القيامة النار.
وكان قد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك العصبية بسبب ما أثار بينهم يهود من تذاكر قتلى يوم بعاث الت يوقعت بين الأوس والخزرج، حتى قال الأوسي: يا للأوس، وقال الخزرجي: يا للخزرج، وثارت بينهم الثائرة، حتى كادت أن تحصل مقتلة عظيمة بينهم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:١٠٠] ولما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بكى الصحابة رضوان الله عليهم لما تبين لهم ما كانوا فيه من عظيم الخطأ والخلل.
فالعصبيات موردها وخيم وعاقبتها وخيمة، ومن قاتل تحت راية عمية حُشر في نار جهنم -والعياذ بالله- تحتها، وهي بعث النار، حتى لو كانت في الجهاد، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية -بمعنى أن الدافع له هو بلده ووطنه ومكانه وأهله وعشيرته- والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل للمغنم؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فكل هذا خارج عن سبيل الله، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يحذر من العصبيات والنعرات؛ فإنها تورد الإنسان الموارد، حتى إنه لربما استباح دماء المسلمين المحرمة.
وإذا اقتتلت طائفتان وكل منهما يتعصب لطائفة فإنها ليست آخذة حكم قتال أهل البغي، فإذا انتهى القتال؛ وجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته، ووجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته على الأخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن هذا: (إذا التقى المسلمان بسيفيها؛ فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وهذا كله يدل على خطر هذه النعرات والعصبيات.
فبين المصنف رحمه الله أن القتال على هذا الوجه لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، فقال: [فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى].
(فهما ظالمتان): أي: لا يعتبر هذا من قتال أهل البغي، بل يجب على الإمام أن يوقفهما عند حدودهما، وتضمن كل طائفة ما أفسدته على الأخرى.
فلو حصل إتلاف للأموال وجب عليهما ضمان هذه الأموال التي أُتلفت، كما لو أحرقت منازل، أو مزارع، أو كسرت مصالح وأتلفت؛ فإنه يجب على المتلف أن يضمن، وما وقع من الدماء يجب ضمانه، فلو عرف القاتل بعينه فإنه يقتص منه؛ إعمالاً للنصوص الشرعية التي تقدمت معنا، وهكذا من أتلف المال إذا عرف بعينه وجب عليه الضمان، إذا أقر وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لا يعرف فإنه يجب عليهم جميعاً أن يضمنوا ما أتلفوه.