للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم تكرار الإمام للآيات في الصلاة]

السؤال

هل يجوز للإمام أن يكرر بعض الآيات وذلك لتفكير المصلين أو التأثير فيهم أثابكم الله؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: إذا كان الإمام يكرر الآية من شدة الحزن والتأثر والخشوع فهذا اغتفره بعض العلماء رحمهم الله.

ولكن إذا كان يكرر الآية وهو لم يتأثر ذلك التأثر، وكأنه يتهم الناس بالغفلة ويحاول أن يذكر غيره، وهو أبعد الناس عن التذكير، فهذا نبه بعض العلماء على أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن السنة أن يقرأ بدون تكرار.

أما إذا كان صادقاً في خشوعه، صادقاً في تأثره، وقد وصل القرآن إلى شغاف قلبه وسكن في فؤاده، وبلغت الآية مبلغها فأصبح يرددها يذوق حلاوتها ويؤثر في الناس بذلك الأثر فلا بأس، قيل: إن عثمان رضي الله عنه قام يتهجد من الليل واستفتح قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:١] فما زال يكررها وهو يبكي حتى انبلج عليه الفجر وأصبحت وتره، وهذه أحوال بعض الناس إذا صدقوا، ولا شك أن الخاشع الصادق في خشوعه ليس بغريب عليه ذلك.

وأما التكلف والتشدد في هذه الأشياء وكل ما قرأ يحاول أن يكرر آيتين أو ثلاثاً في أي سورة يقرؤها أو أي مقطع يقرؤه، فالذي أراه تحري السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة المسترسلة، وإعطاء القرآن حقه بمتابعة القراءة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الصبح وسمع نشيجه من البكاء، وهذا من الغالب؛ لأن الخشوع غلبه، لذلك كان يبكي رضي الله عنه خاصة حينما بلغ قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٤ - ٨٦] فما زال رضي الله عنه يكررها حتى أبكى الناس، وهذا خشوع الصادقين، خشوع المتأثرين الذين صدقوا مع الله عز وجل في سرائرهم وزكى الله سريرتهم وعلانيتهم، وللخاشعين الصادقين في الخشوع دلائل واضحة في قلوب الناس إن خطبوا أو أموا أو صلوا أو وعظوا؛ لأن الله لا يغش عباده، فما من عبد يسر سريرة يصدق فيها مع الله إلا صدق الله معه، ولذلك تجد الصادق إذا قرأ آية وتأثر بها والله يعلم أنه خاشع فيها تبلغ هذه الآية مبلغها، وكان أئمة السلف ومن بعدهم من الخلف من الصالحين يخفون الخشوع ويخافون الرياء، ويخافون اغترار الناس بهم، وكنا نذكر بعض مشائخنا من إذا خلا في قيامه في الليل تسمعه يبكي بكاء الطفل، وإذا جلس أمام الناس وورد شيء يؤثر عليه فيحاول أن يخفي شيئاً كثيراً من ذلك، وذات مرة سألت بعضهم، فقال: أخشى أن يتكلف بعض الحاضرين الخشوع فيهلك، والخشوع أمره عظيم، والله الذي يُقرأ القرآن بين يديه ويقف الإمام بين يديه أجل وأحق من عبد، وينبغي على الإنسان أن يصدق مع الله، وأن يخاف الله جل جلاله، وألا يكرر القرآن إلا وهو صادق التأثر، وتكون قراءته قد خرجت من قلبه فذلك أصدق وأبلغ.

ولا شك أن الناس بحاجة إلى من يذكرهم الله، وما شرعت الصلاة الجهرية إلا وفيها الخير العظيم والبركة العظيمة من سماع كتاب الله عز وجل، فالله أعلم كم من قلوب اهتدت، وكم من قلوب خشعت وعيون دمعت، وكم من نفوس استقامت على منهج ربها وطاعة خالقها حينما سمعت آيات ربها ممن صدق في تلاوتها، الله أعلم كم من أناس خشعوا وخضعوا وصدقوا، وأرادوا وجه الله عز وجل، وابتغوا ما عند الله في تحبيب عباد الله وتقريبهم لله سبحانه وتعالى، وتعريفهم لله جل جلاله، فتلوا الآيات حق تلاوتها، وتأثروا بها، ومن الأئمة من يقرأ المقطع الذي يريد أن يقرأه على الناس، فلا تسكن له عين من دمعة ولا يفتر له قلب من خشوع خالياً فيما بينه وبين الله، فيتلوها ويتأثر فيما بينه وبين الله عز وجل، ومن الخطباء والوعاظ والمحاضرين ومن الموجهين والمعلمين من إذا أراد أن يعظ أو يحاضر أو يخطب تدبر ماذا يقول، وعرض قلبه عليه وقالبه على ذلك، وتأثر به في نفسه فرآه ربه وعلمه ربه خاشعاً متخشعاً صادقاً في خشوعه وتذلّله لربه، فلما خرج إلى الناس وخرجت كلماته موعظة للناس أسكنها الله في القلوب وهز بها المشاعر وأصغى لها الأذان، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:٢٦] {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] أولئك الذين صدقوا وأولئك الذين خشعوا فلم ينافقوا ولم يراءوا، وهان عليهم الناس أمام عظمة رب الجنة والناس، وأن الواحد منهم ليصلي بالناس فيقرأ من كتاب الله جل جلاله ما تخشع له الجبال وتهتز له المشاعر والقلوب، فإذا به يخشع ويتخشع ويبكي ويدمع صادقاً لربه، ثم يتمنى بعد صلاته أن لو كان هذا بينه وبين الله لم يره أحد، فلا يفرح أن الناس اطلعت، ولا يفرح أن الناس خشعت، ولا يسأل: هل الناس تأثرت؟ على خلاف من دخله الدخن فتجده يخطب الخطبة ثم يبحث ما هو أثرها وما وقعها، ثم يدخل عليه هذا ويقول له: صار لها موقع وصار لها كذا، فلا يزال الشيطان يأخذ من قلبه الشعبة تلو الشعبة حتى ينصرف القلب كله عن الله، فعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.

وعلى كل تال لكتاب الله وكل واعظ وكل إمام وخطيب وكل موجه وكل مربٍ وكل معلم أن يجعل الله نصب عينيه، وأن يعلم أن ما عند الله أسمى وأعلى وأزكى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦ - ١٧] الله أكبر! لو أن النفوس أيقنت وتعقلت وفقهت، ولو علمت من تعامل ولمن تذل وتخضع؟ لو علمت أن اللحظة بل لربما طرفة عين من خشوع صادق لربما رضي الله عن عبده رضاً لا سخط بعده أبداً، ولو علمت أن هذا الرب الكريم لربما نظر إلى عبده في مقام ذل وانكسار، فجعله في كرامة لا مهانة بعدها أبداً، فكم من عين دمعت حرمها الله على النار! وكم من قلوب خشعت تكفل الله أن يسعدها فلا تشقى أبداً.

يعامل الإنسان ربه، ويعلم أن الإمامة في الدين، وأن التقدم والتصدر والتوجيه والموعظة ليس من أجل أن يجتمع حوله الناس أو ترمقه الأبصار، أو تخطفه الأنظار، ولا أن يتحدث به الناس، إنما المراد أن يذكر في الملأ الأعلى راضياً مرضياً عنه من الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده ... ) يكون الإنسان إماماً فيحبه الله في إمامته، ويكون خطيباً فيحبه في خطابته، ويكون طالب علم فيحبه في طلبه للعلم، ويكون عالماً فيحبه الله في علمه، ويكون مفتياً قاضياً في أي أمر من أمور الطاعات، حتى يكون رب أسرة رحيماً بأولاده رحيماً بزوجه واصلاً لرحمه، فتكون خصلة من الخصال الموجبة له للزلفى والوسيلة عند الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:٣٥] فجعلها وسيلة إليه من الأعمال الصالحة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده ... ) اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تجعلنا ممن أحببت، اللهم اجعلنا ممن أحببته وناديت فيه جبريل (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) فإذا نادى الله عز وجل: يا جبريل! ارتجت السموات فقال (.

يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه ... ) ينادي باسم الإنسان في السموات وهذا هو الشرف، وهذه هي الكرامة والعزة، وهذه هي الرفعة، وهذا هو المجد والسؤدد، وهذه هي الغاية التي وراءها جنات عدن التي فيها النعيم المقيم (إني أحب فلاناً فأحبه) لكن ليس بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالهوى ولا بالمبالغة، ولا بالتصنع للناس ولا بالتزلف، ولا بالنفاق ولا بالرياء، بل بحقائق أمور صادقة؛ لأن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً (إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا كان إماماً قبلت إمامته، ورضي الله عن إمام قبلت إمامته، فإن خشع قبل خشوعه، وإن خضع قبل خضوعه، وإن أمر وضع الله القبول لأمره ونهيه ووعظه، هكذا كان الصالحون، وهكذا يمضي بعدهم الأخيار والمتقون، هكذا وإلا فلا.

معاملة مع الله صادقة نظيفة زكية، يرى العبد ما يقدمه لربه قبل أن يكون في قوله وعمله، وقبل أن يتكلم، وقبل أن يعمل، يرى ما الذي يقدم لله جل جلاله، أيقدم له شيئاً مليئاً بالرياء والنفاق، ومحبة المدح والثناء؟ ماذا يفيدك الناس إن غضب عليك رب الجنة والناس؟ إن العبد في منزلة لو سخط عليه أهل السموات والأرض ما استطاعوا أن ينزلوه عنها شعرة إلا بإذن الله جل جلاله، وإن العبد في منزلة إذا رضي الله عنه لو أطبق الخلائق كلهم على أن ينزلوه منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك الذي عناه الله بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:٤].

فعلى الإمام إذا أراد أن يؤثر في الناس أن يعلم أن التأثير ليس بتكرار الآيات، وليس التأثير أن نشتغل بالتأثير في الناس قبل أن نؤثر في أنفسنا، وليس التأثير في الناس بتنميق العبارات وتجميل الكلمات وتحبير الخطب، إنما التأثير أسرار بين الأبرار والواحد القهار، جن عليه الليل وأضاء عليه النهار، أسرار في القلوب لا يعلمها إلا الله جل جلاله، هكذا عاش السلف الصالح؛ بالإخلاص والإحسان واليقين وإرادة وجه الله عز وجل {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:١٩] هذا الشرط، ولا إيمان إلا بإخلاص وتوحيد، ولا إيمان إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته ومعرفة من هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وإذا عرف العبد ربه استجمع جميع ما يملك مما بين يديه وخلفه، وفوقه وتحته كله لمرضات الله سبحانه وتعالى.

فنسأل الله العظيم رب

<<  <  ج:
ص:  >  >>